استقبال أهل المدينة للرسول

خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- في هجرته مع صاحبه أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-؛ متجهاً إلى المدينة المنورة، تاركاً خلفه بلده ووطنه مكة المكرمة، ليعود إليها فاتحاً بنصر مؤزر من الله -تعالى-، ولقد استعدّ أهل المدينة المنورة لهذا اليوم بلهفة وترقب، منتظرين قدومه -صلى الله عليه وسلم- على أحرّ من الجمر، وقد تجلّى في السيرة النبوية أبرز المواقف التي كانت في استقباله -صلى الله عليه وسلم- من أهل المدينة الكرام، نذكر منها ما يأتي:


انتظار الرسول في الحرّ

لمّا بلغ أهل المدينة المنورة أمر خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة المكرمة، أخذوا يترقبون قدومه، وينتظرونه كل يوم في الحرّة بعد صلاة الصبح؛ حتى إذا اشتدّ الحرّ عليهم عادوا إلى منازلهم، ولما يأتي الغد يعاودون الخروج إلى الحرّة، حتى كان يوم الاثنين، الثاني عشر من ربيع الأول، من سنة أربع عشرة من البعثة، خرجوا على عادتهم ينتظرون قدوم النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم.[١]


ولمّا حميت عليهم الشمس رجعوا، وكان رجلٌ من اليهود قد صعد إلى أحد الحصون لبعض شأنه؛ فرأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، فما كان منه إلا أن صرخ بأعلى صوته وقال: "يَا مَعْشَرَ العَرَبِ -وقيل: يا بَنِي قَيْلَة-، هَذَا جَدُّكُمْ الذِي تَنْتَظِرُونَ"؛ فثار المسلمون إلى السلاح، وخرجوا إليه -صلى الله عليه وسلم-.[١]


استقبال النبي بالتكبير والتهليل

فرح المسلمون بقدوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد استقبلوه وصاحبه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- بالتكبير والتهليل؛ حتى سُمعت الرَجّة -الحركة الشديدة- من شدّة تكبيرهم وفرحهم، ثم أقبلوا يُسلمون على النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى أبي بكر -رضي الله عنه-، ويتوافدون عليهما ويحيطونهما.[٢]


ولم يكن المسلمون وهم يحيطون بهما فرحاً وسروراً؛ لم يكونوا وقتها مدركين أيّ الرجلين يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلمّا اشتدت الشمس قام أبو بكر -رضي الله عنه- يُظلّل النبي -صلى الله عليه وسلم- بردائه، فتحقّق الناس حينئذٍ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.[٢]


ولقد زحفت المدينة كلّها في هذا اليوم العظيم إلى موضع النبي -صلى الله عليه وسلم- في قُباء، واجتمع الناس في يوم لم يُشهد مثله في المدينة، والسكينة يومئذٍ تغشى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى أنزل الله -تعالى- قوله: (... فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ).[٣][٢]


التنافس في مكان مكوث الرسول

تنافس المسلمون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كلُ واحد يرغب بأن ينال شرف استقباله في بيته، فأخذ الناس يعرضون على النبي -صلى الله عليه وسلم- بيوتهم، وقد خرج الغلمان والخدم، والنساء والرجال في الطرقات، وفوق البيوت؛ وهم يقولون: (جاء مُحمَّدٌ، جاء رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم).[٤][٥]


ولكنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- اختار أن يُكرم بني النجار؛ فقال: (إنِّي أنزِلُ اللَّيلةَ على بني النَّجَّارِ أخوالِ عبدِ المطَّلبِ أُكرِمُهم بذلك)،[٤] فنزل النبي -صلى الله عليه وسلم- عندهم، ثم انطلق في اليوم الثاني إلى الموضع الذي أمره الله -تعالى- أن يقيم فيه المسجد.[٥]


إكرام الأنصار لرسول الله

انطلق النبي -صلى الله عليه وسلم- في صبيحة اليوم الثاني الذي وصل فيه إلى المدينة المنورة، ومشى إلى الموضع الذي أمُرت فيه الناقة بالمكوث؛ ليكون موضعها مسجداً بأمر الله -تعالى-، فلمّا أراد النبي النزول سأل أبا أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- عن أقرب البيوت ليمكث فيها -صلى الله عليه وسلم-، إلى حين الانتهاء من بناء المسجد؛ فأخبره أبو أيوب أنّ داره هي الأقرب؛ فنزل النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيته.[٦]


وقد كانت دار أبي أيوب -رضي الله عنه- تتكون من طابقين؛ فاستحى من نبي الله أن يكون وزوجته في الطابق الأعلى والنبي -صلى الله عليه وسلم- تحتهما؛ فطلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكون في العلوّ، وأن يكون هو وزوجته في السفل؛ ولكنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- طمأنه بارتياحه في الموضع الذي هو فيه، وفي ذات ليلة انكسر إبريق لأبي أيوب وفيه الماء؛ فأخذ يجفف الماء بلحاف ليس عنده غيره يتغطى به وزوجته؛ خشية أن ينزل الماء على النبي فيزعجه.[٦]


وقد كان الناس فرحين بنزول النبي -صلى الله عليه وسلم- في أحيائهم؛ فكانوا يبعثون الطعام إلى بيت أبي أيوب -رضي الله عنه-، ويكثرون منه إكراماً للنبي -صلى الله عليه وسلم- حتى تجتمع القصعة والقصعتان والثلاث أمام بيت أبي أيوب -رضي الله عنه-، وقد بقي النبي -صلى الله عليه وسلم- عنده حتى تحوّل إلى المسجد، وبنى حجراته.[٦]


الثناء على الأنصار

أثنى الله -سبحانه وتعالى- على الأنصار، وعلى حبّهم لإخوانهم المهاجرين، وبذلهم في مساندتهم، وإيوائهم، ومشاركتهم؛ بالإضافة إلى حسن استقبالهم ونصرتهم للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقال -سبحانه: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).[٧][٨]


كما امتدح النبي -صلى الله عليه وسلم- الأنصار في عدد من المواقف؛ فقد قال في إحدى المناسبات: (... لَوْلَا الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأنْصَارِ، ولو سَلَكَ النَّاسُ وادِيًا وشِعْبًا، لَسَلَكْتُ وادِيَ الأنْصَارِ وشِعْبَهَا، الأنْصَارُ شِعَارٌ، والنَّاسُ دِثَارٌ...).[٩][٨]

المراجع

  1. ^ أ ب موسى بن راشد العازمي، اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون، صفحة 79-80، جزء 2. بتصرّف.
  2. ^ أ ب ت صفي الرحمن المباركفوري، الرحيق المختوم، صفحة 155. بتصرّف.
  3. سورة التحريم، آية:4
  4. ^ أ ب رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن البراء بن عازب، الصفحة أو الرقم:2009، صحيح.
  5. ^ أ ب الطبري، محب الدين، خلاصة سير سيد البشر، صفحة 49. بتصرّف.
  6. ^ أ ب ت عطية سالم، دروس الهجرة، صفحة 5، جزء 8. بتصرّف.
  7. سورة الحشر، آية:9
  8. ^ أ ب مجموعة من المؤلفين، نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم، صفحة 262-263، جزء 1. بتصرّف.
  9. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن زيد، الصفحة أو الرقم:4330، صحيح.