قصة بدء الوحي

غار حراء ونزول جبريل عليه السلام

أخرج البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أوّل ما بدئ به فيما يتعلّق بالوحي من الله -تعالى-؛ هي الرؤيا الصادقة في منامه، فكان لا يرى رؤيا في منامه إلا جاءت في الواقع كفلق الصبح، كناية عن تحققها ووقوعها، ومعلوم أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعتكف قبل البعثة في غار حراء عدّة ليالي؛ للتعبّد، والتّأمل في ملكوت الله -تعالى-.[١]


وكان يتزوّد لذلك ويخرج، فإن انتهى زاده عاد إلى زوجته خديجة -رضي الله عنها- فتزوّده مثلها لينطلق مجدداً إلى الغار، وفي أحد أيام تحنّثه -صلى الله عليه وسلم- في غار حراء نزل عليه الملك جبريل -عليه السلام-؛ فقال له: (اقْرَأْ)، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما أنَا بقَارِئٍ)،[٢] فأمسك به جبريل -عليه السلام- واحتضنه، وضمّه ضمةً شديدة.[١]


وقد فعل ذلك إيناساً وتقويةً له على تلّقي الوحي والقرآن الكريم، ثم أعاد جبريل -عليه السلام- وأمره بالقراءة، فردّ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بذات الرّد، فضمّه، ثم أطلقه، وبعدها أعاد عليه جبريل -عليه السلام- الأمر مرة أخرى؛ حتى قال له بعد الضمّة الثالثة: ("اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" حتَّى بَلَغَ "عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ")؛ فرجع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بيته وهو يرتجف، ودخل على زوجته خديجة وهو يقول: (زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي).[٢][١]


طمأنة خديجة رضي الله عنها للنبي

لمّا هدأ روع النبي -صلى الله عليه وسلم- مما كان به من خوف وارتجاف؛ قصّ الخبر على زوجته خديجة -رضي الله عنها-؛ فطمأنت النبي -صلى الله عليه وسلم- بحكمتها ورجحان عقلها، واستدلالها بأخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- وأعماله الفاضلة على أنّ الله -تعالى- لن يجزيه عليها بالخزي والخذلان؛ لأنّ أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- وشيمه الشريفة الكريمة يتناسب معها التأييد، والبشرى والإحسان.[٣]


وقد ذكرت خديجة -رضي الله عنها- من صفاته -صلى الله عليه وسلم-: (... إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ...)؛[٢] ثم انطلقت بعد ذلك -رضي الله عنها- إلى ابن عمّها ورقة بن نوفل، وقد كان عالماً بالديانة النصرانيّة؛ فلمّا أخبره النبي -صلى الله عليه وسلم- بما رآه وما كان من فعل جبريل -عليه السلام- وأمره؛ بشّره وقال له: (... هذا النَّامُوسُ الذي أُنْزِلَ علَى مُوسَى...).[٢][٣]


ثم أعلمه بمشقة هذا الأمر الذي سيُكلف به النبي -صلى الله عليه وسلم-، وذلك حين قال له أنّ قومه سيُخرجونه من مكة المكرمة على إثر هذه النبوة والدعوة؛ فردّ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- مستغرباً: (... أوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟...)، فقال ورقة: (نَعَمْ؛ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بمِثْلِ ما جِئْتَ به إلَّا عُودِيَ، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا...).[٢][٣]


فترة الوحي

انحبس الوحي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد حادثة نزوله في غار حراء؛ فقيل إنّ ذلك دام أياماً، وقد حزن النبي -صلى الله عليه وسلم- حزناً شديداً، وتملّكته الحيرة والدهشة؛ وقد ثبت في الصحيح أنّه -صلى الله عليه وسلم- من شدّة غمّه في ذلك الحين كاد يُسقط نفسه من شواهق الجبال، حتى ظهر له جبريل -عليه السلام- وأخبره بأنّه رسول الله حقاً؛ فهدأت نفسه واطمأنت، ثم عاوده الحزن، فكاد يُسقط نفسه من شواهق الجبال مرة أخرى، فظهر له جبريل -عليه السلام- وطمأنه.[٤]


بعدها نزل جبريل -عليه السلام- على النبي -صلى الله عليه وسلم- للمرة الثانية، حاملاً معه وحياً من القرآن الكريم؛ وفي هذا يقول -صلى الله عليه وسلم- بعد فترة الوحي: (... فَبيْنَا أَنَا أَمْشِي، سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ، فَإِذَا المَلَكُ الذي جَاءَنِي بحِرَاءٍ، قَاعِدٌ علَى كُرْسِيٍّ بيْنَ السَّمَاءِ والأرْضِ، فَجُئِثْتُ منه، حتَّى هَوَيْتُ إلى الأرْضِ، فَجِئْتُ أَهْلِي فَقُلتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى "يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ قُمْ فأنْذِرْ" إلى قَوْلِهِ "وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ").[٥][٤]

المراجع

  1. ^ أ ب ت موسى بن راشد العازمي، اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون، صفحة 171-173، جزء 1. بتصرّف.
  2. ^ أ ب ت ث ج رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم:6982، صحيح.
  3. ^ أ ب ت صالح بن طه عبد الواحد، سبل السلام من صحيح سيرة خير الأنام عليه الصلاة والسلام، صفحة 71-72، جزء 1. بتصرّف.
  4. ^ أ ب صفي الرحمن المباركفوري، الرحيق المختوم، صفحة 58-59.
  5. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن جابر بن عبد الله ، الصفحة أو الرقم:3238، صحيح.