حفل التاريخ الإسلاميّ بكثيرٍ من النساء اللواتي كان لهنّ دورٌ بارزٌ في خدمة الإسلام، ونصرة دعوته، وكان جيل الصحابيات هو الجيل الأعظم أثرًا؛ لأنّ الصحابيات عاصرنَ النبيّ -عليه الصلاة والسلام-، وشهدنَ الوحي والتنزيل، ومن أبرز الصحابيات وأعظمهنّ قدرًا وأكثرهنّ أثرًا: أمّ المؤمنين خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها-؛ حيث شهدت كتب السير بمواقفها في مساندة النبيّ -عليه الصلاة والسلام- ودعوته منذ نزول الوحي عليه إلى أن وافاها الأجل، وفيما يأتي بيانٌ لأبرز مواقف خديجة المؤثّرة في حياة النبيّ -عليه الصلاة والسلام- ودعوته.
مواقف السيدة خديجة مع النبيّ
اختيارها له ليتاجر بمالها
كانت خديجة -رضي الله عنها- من سيّدات قريش وأشرافها، وكانت ذات مالٍ، وعلى عادة أهل قريش أنّهم كانوا يستثمرون أموالهم في التجارة؛ طلبت خديجة -رضي الله عنها- من النبيّ -عليه الصلاة والسلام- أن يُسافر بمالها إلى الشام للتجارة فيه؛ وذلك لما سمعته وبلغها عنه من أمانته وصدقه، وحسن خُلق الذي عُرف واشتهر به بين قومه، فخرج النبيّ -عليه الصلاة والسلام- برفقة غلام خديجة -رضي الله عنها- إلى الشام للتجارة، وربحت تجارته، وعاد إليها بربحٍ وفيرٍ، وكان عمر النبيّ -عليه الصلاة والسلام- حينها يُقارب الخامسة والعشرين.[١]
رغبتها بالزواج به
بعد أن رأت خديجة -رضي الله عنها- من النبيّ -عليه الصلاة والسلام- صفاتًا وخصالًا عظيمةً، تؤكّد حسن خُلقه، وكرم طبعه؛ وسّطت من الناس من يُكلّم النبيّ -عليه الصلاة والسلام- ويُعلمه برغبة خديجة بالزواج منه، وكانت خديجة -رضي الله عنها- يومها في الأربعين من عمرها، والنبيّ -عليه الصلاة والسلام- في الخامسة والعشرين من عمره، وقد أبدى النبيّ -عليه الصلاة والسلام- رغبته بالزواج منها؛ فخطبها له عمّه أبو طالبٍ وزوّجها له، وكان ذلك قبل بعثته بالنبوّة.[٢]
وأنجبت السيدة خديجة -رضي الله عنها- للنبيّ -عليه الصلاة والسلام- القاسم وعبد الله -وقد توفّيا صغارًا-، وأنجبت له زينب، ورقيّة، وأمّ كلثوم، وفاطمة -رضي الله عنهنّ-، ولم يُنجب للنبيّ -عليه الصلاة والسلام- ولدٌ من غي خديجة -رضي الله عنها- إلّا ابنه إبراهيم من مارية القبطيّة، وقد توفّي صغيرًا كذلك،[٣] وقد عاشت خديجة -رضي الله عنها- إلى جوار النبيّ -عليه الصلاة والسلام-، مساندةً له وفي عونه خمسةً وعشرين عامًا؛ حيث وافاها الأجل في عمر الخامسة والستين.[٢]
مساندتها له عند بدء الوحي
كان من عادة النبيّ -عليه الصلاة والسلام- قبل البعثة، الخلوة للتفكّر والتعبّد؛ فكان يختلي بنفسه لأيّامٍ وليالٍ معدودةٍ في حراء، ثمّ يعود إلى أهله، إلى أنّ جاءه في الغار أثناء خلوته، جبريل -عليه السلام- في أوّل نزولٍ للوحي عليه، وأمره بالقراءة، وضمّ جبريلُ النبيَّ -عليه الصلاة والسلام- ضمَّةً شديدةً؛ فعاد إلى خديجة -رضي الله عنها- خائفًا مُثقلًا من هول وشدّة ما رأى، وأبدى النبيّ -عليه الصلاة والسلام- خوفه بين يديها، وقد جاءها خائفًا مرتجفًا يطلب أن تغطّيه، ففعلت، وأخبرها بما رأى.[٤]
ولم يكن من خديجة -رضي الله عنها- إلّا أن طمأنت النبيّ -عليه الصلاة والسلام- بكلامٍ سليمٍ حكيمٍ، يبعث في نفس النبيّ السكينة، بأنّ الله -تعالى- لن يخذله أو يخزيه، وعددّت محاسن للنبيّ -عليه الصلاة والسلام-؛ تؤكّد له فيها أنّ الله -تعالى- لا يترك أو يخذل من كان طبعه كذلك؛ فقالت له كما في الحديث: (كَلَّا، أبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا؛ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ)؛[٥] فذكرت خديجة -رضي الله عنها- مناقب النبيّ؛ من أنّه يحسن إلى أقاربه ومحارمه ويصلهم، ويصدق في أقواله، يحمل الكلّ؛ أي يعين الضعيف المنقطع الذي لا يجد من يساعده، ويكرم الضيف، وتعين الناس فيما يحلّ بهم من مصاب إن كانوا أصحاب حقٍّ، ثمّ أخذته ليطمئن أكثر إلى ابن عمٍّ لها، وهو ورقة بن نوفل وكان على النصرانية؛ ليخبره النبيّ -عليه الصلاة والسلام- بما حصل معه؛ فأخبره بأنّه الوحي الذي نزل على الأنبياء قبله.[٦]
أوّل المؤمنين بدعوته
لم تقف مساندة خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- للنبيّ -عليه الصلاة والسلام- بالتخفيف عنه وطمأنته بعد بدء نزول الوحي عليه، بل كانت أوّل من صدّق دعوته، ولم تشكّك في نبوّته، وكانت -رضي الله عنها- أوّل من آمنت به، ولذا يذكر العلماء وكتّاب السّير أنّ أوّل من أسلم وآمن بالنبيّ -عليه الصلاة والسلام- ودعوته بين الرجال والنساء على الإطلاق؛ هي خديجة -رضي الله عنها-.[٣]
وفاء النبيّ للسيدة خديجة
قدّر الله -تعالى- أن تعقب وفاة أبي طالب عمّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام-، وفاة خديجة -رضي الله عنها-؛ ليفقد النبيّ -عليه الصلاة والسلام- بوفاتهما أعظم سندٍ له؛ حيث وقف عمّه أبو طالب مدافعًا عنه، وحامٍ له من كيد قريش وأذاهم، ووقفت خديجة -رضي الله عنها- مساندةً ومؤازرةً له قبل بعثته بمالها، وبعد بعثته بتصديقه وإيمانها بدعوته، والتخفيف عنه ممّا لقيه من ثقل الدعوة وحمل الرسالة أولًا، وإيذاء قريش وتكذيبهم له ثانيًا، وكان ذلك في العام العاشر من البعثة النبويّة، والعام الذي عُرف بعام الحزن.[٧]
وقد كان النبيّ -عليه الصلاة والسلام- وفيًّا لخديجة -رضي الله عنها-، وذاكرًا لمواقفها معه، ورغم أنّه تزوّج بعدها، إلّا أنّه حفظ لها ما كان من كريم خصالها، وكيف ساندته، ومن ذلك قوله -عليه الصلاة والسلام- فيها: (ما أبدَلَني اللهُ عزَّ وجلَّ خَيرًا منها، قد آمَنَتْ بي إذ كفَرَ بي الناسُ، وصدَّقَتْني إذ كذَّبَني الناسُ، وواسَتْني بمالِها إذ حرَمَني الناسُ، ورزَقَني اللهُ -عزَّ وجلَّ- ولَدَها إذ حرَمَني أولادَ النِّساءِ).[٨][٣]
مواضيع أُخرى:
المراجع
- ↑ محمد أبو شهبة، السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة، صفحة 214-215. بتصرّف.
- ^ أ ب محمد الطيب النجار، القول المبين في سيرة سيد المرسلين، صفحة 101-103. بتصرّف.
- ^ أ ب ت السيد الجميلي، نساء النبي، صفحة 11-13. بتصرّف.
- ↑ محمد الصوياني، الصحيح من أحاديث السيرة النبوية، صفحة 32. بتصرّف.
- ↑ رواه الببخاري، في صحيح البخاري، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم:6982، حديث صحيح.
- ↑ "شرح حديث: بدء نزول الوحي"، الدرر السنية، اطّلع عليه بتاريخ 1/9/2022. بتصرّف.
- ↑ صفي الرحمن المباركفوري، الرحيق المختوم، صفحة 103-105. بتصرّف.
- ↑ رواه أحمد بن حنبل، في مسند أحمد، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم:24864، صححه شعيب الأرناؤوط.