الهجرة إلى الحبشة

بذل الصحابة الأوّلون -رضي الله عنهم- وِسْعَهم وطاقتهم في سبيل الحفاظ على الدعوة الإسلامية من بطش المشركين، وعَظُم صبرهم وجهادهم على الأذى الذي تعرّضوا له في سبيل إسلامهم على الرغم من عناد قريش واستغلالها كلّ سبيلٍ لإذلالهم وإهانتهم وتعذيبهم، ولمّا اشتدّ البلاء على الصحابة أراد الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- أن يمنح المسلمين فترةً يستعيدون فيها قوّتهم وعافيتهم، فأشار عليهم بالهجرة والفِرار بدينهم ودعوتهم إلى أرض الحبشة، وبذلك كانت أول هجرةٍ في الإسلام إلى الحبشة.[١]


الهجرة الأولى إلى الحبشة

استعدّ نفرٌ من الصحابة للهجرة ليلاً بالخفاء؛ لئلا يلفتوا أنظار المشركين لرحليهم فتحبط هجرتهم، ولم يتجاوز عددهم في الهجرة الأولى ستة عشر نفراً؛ منهم: عثمان بن عفان وزوجته رقية، فخرجوا ليلاً إلى الشاطئ واستقلّوا سفينَتَين تجاريتين للوصول إلى أرض الحبشة، فما لبثوا أن وصلوا أرض الحبشة حتى جاءهم خبر توقيع قريش هدنةَ مع المسلمين وأنّها كفّت عنهم الأذى والتعذيب،[٢] وأنّ حمزة بن أبي طالب وعمر بن الخطاب قد أسلما، فاستبشروا بالخبر وعزموا على العودة إلى مكّة، وقبل وصولهم إليها بساعاتٍ قليلةٍ علَمِوا أن الخبر ما كان إلّا إشاعةً، وأنّ قريش أصبحت أكثر عداءً وخصومةً للإسلام والمسلمين، فما كان منهم إلّا أن انتظروا إلى الليل وعقدوا اجتماعاً بينهم، فاختار بعضهم الرجوع إلى الحبشة، واختار آخرون الدخول إلى مكة سرّاً لقضاء بعض حوائجهم والعودة بعدها إلى الحبشة، وقرّر آخرون الاحتماء ببعض أهل مكة والدخول جهراً.[٣]


الهجرة الثانية إلى الحبشة

استمر المشرّكون بتعذيب المستضعفين من المسلمين والتضييق عليهم في مكّة، وخاصةً بعدما هاجرت الثُلة الأولى من المسلمين إلى أرض الحبشة، واستمرت قريش بمساومة أبي طالب حتى يسلّم الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- لهم فرفض ذلك، فقرّر المشركون مقاطعة بني هاشم وبني المطلب في شِعَب أبي طالب، فاشتدّ ذلك على المسلمين، فأشار الرسول على المسلمين بالهجرة إلى الحبشة مرةً ثانيةً،[٤] وقد بلغ عددهم ثلاثة وثمانين رجلاً وثماني عشر امرأةً على رأسهم جعفر بن أبي طالب وزوجته أسماء بنت عُميس،[٥] وقد أحكموا خططهم وأعدّوا عدّتهم وعاون بعضهم بعضاً، وبفضل الله -تعالى- نجح المسلمون في الفِرار بدينهم وأنفسهم، وقد وصلوا أرض الحبشة وهم آمنين، واستقبلهم النجاشي خير استقبالٍ كما استقبل الثلة الأولى من المهاجرين.[٦] وقد كان قرار الهجرة في هذه المرة صعباً لعدّة أمورٍ، منها:[٧]

  • اختلاف العدد، فقد كان عددهم في الهجرة الأولى أربعة عشر رجلاً وثلاثة نسوة، أمّا في المرة الثانية فقد تجاوز عددهم المئة.
  • علم قريش بهذه الهجرة، واتخاذها الإجراءات والتدابير اللازمة لمنعهم من ذلك، وإغلاق أبواب مكة، ووضع الحراس في كلّ مكانٍ.
  • هجرة شخصياتٍ معروفةٍ مرموقةٍ من بعض بيوت زعماء قريش؛ كأمّ حبيبة ابنة أبي سفيان.


أسباب الهجرة إلى الحبشة

قابلت قريش الدعوة الإسلامية والمسلمين بأشدّ أنواع الأذى والتعذيب، وحينما اشتدّ ذلك على المسلمين وأصرّت قريش على عنادها وكفرها وتعذيبها وعدائها للدعوة، أشار الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- على أصحابه بالهجرة من مكّة إلى أرض الحبشة، فخرج نفرٌ من خيرة شباب مكة،[٨] لأسبابٍ عديدةٍ يُذكر منها:[٩]

  • الحفاظ على الدعوة الإسلامية من الهلاك والاندثار في مكة.
  • نشر الدعوة الإسلامية في بقعةٍ أخرى غير مكة، والحفاظ على فئةٍ تحمّل أعباء الدعوة وتبذل في سبيل نشرها.
  • إحداث صدمةٍ داخل مكة من هجرة خيرة شبابها، فمعظم المهاجرين كانوا من أشراف مكة وأعظمهم قدراً ونسباً.


موقف المشركين من الهجرة إلى الحبشة

كان هدف قريش من عدائها للإسلام منع انتشار الدعوة والقضاء عليها، وليس فقط إخراج المسلمين من مكة، فلم يهدأ لهم بالٍ حتى أرسلوا وفداً إلى النجاشي على رأسهم عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة، وقد اشتهرا بالدهاء والمكر، وقد كانت هناك صداقة بين النجاشيّ وعمرو بن العاص، وأرسلوا معهما الهدايا الثمينة إلى النجاشي ورجاله، واسترسل عمرو في كلامه في إقناع ملك الحبشة بردّ المسلمين إلى ديارهم، ووافقه رجال النجاشي في ذلك بعد أن أمدّهم عمرو بالهدايا الثمينة، إلّا أنّ النجاشي كان صاحب حكمةٍ بالغةٍ، فرفض أن يسلّم المسلمين إليهم حتى يسمع منهم، ثمّ اجتمع الفريقان في مجلس النجاشي وتكلّم جعفر بن أبي طالب بلسان المسلمين، وقد سمع النجاشي ردّهم على قول عمرو بن العاص، وعرضهم لدعوتهم، فلم يكن منه إلّا أن صدّقهم وآواهم في أرضه.[١٠]


عودة المسلمين من أرض الحبشة

بقي المسلمون سنواتٍ عدّةٍ في أرض الحبشة، وقد استثمروا بقاءهم فيها بالتعريف بدينهم ودعوة الناس إليه، ثمّ عادوا في السنة السابعة من الهجرة وقت غزوة خيبر،[١١] وقد فَرِح الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- بعودتهم فرحاً شديداً، وأشركهم في غنائم غزوة خيبر، وقد مرّت الدعوة الإسلامية بأحداثٍ مختلفةٍ وهم في الحبشة وبغزواتٍ عدةٍ، ونزلت العديد من آيات القرآن، وتقلّبت فيها أحوال المسلمين وأصبحوا أكثر قوةً.[١٢]


سبب اختيار أرض الحبشة للهجرة إليها

اختار الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- أرض الحبشة للهجرة إليها؛ لعدّة ميزاتٍ تفرّدت بها عن غيرها يُذكر منها:[١٣]

  • أنّ ملكها النجاشيّ ملكٌ عادلٌ، لا يُظلم عنده أحدٌ، والعدل من أساسيات حكمه بغض النظر عن الدِّين.
  • أنّ أهل الحبشة أهل كتاب أيضاً، وأنّهم أقرب الناس للمسلمين، وقد أكّد الله -سبحانه وتعالى- ذلك في سورة المائدة بقوله: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ).[١٤]
  • أنّ أرض الحبشة بعيدةً عن مكة، وذلك يجعلها أكثر أماناً بالنسبة للمهاجرين.
  • أنّها كانت مملكةً مستقلةً لا تتبع سياسياً لأي أحدٍ.
  • أنّها كانت دولةً ذات شأنٍ وقوةٍ في المنطقة وملكها ملكٌ قويٌ، يحظى باحترام وتعظيم وصداقة أهل مكة، ممّا يجعل قريش تفكّر كثيراً قبل اتخاذ أي قرارٍ تجاه الحبشة.
  • أنّها كانت بلداً تجارياً قويةً اقتصادياً لا يخشى عليها الفقر بلجوء المهاجرين إليها.


نتائج هجرة المسلمين إلى الحبشة

ترتّبت العديد من النتائج على هجرة المسلمين إلى الحبشة، من أبرزها: حفاظ المسلمين على دِينهم وأنفسهم، وشعورهم بالأمن والحماية من أذى قريش، وامتداد الدعوة الإسلامية وانتقالها من حيز مكة المكرمة إلى أراضٍ أخرى، واكتساب أرضٍ جديدةٍ للدعوة الإسلامية.[١٥]


المراجع

  1. سعد المرصفي ، كتاب الجامع الصحيح للسيرة النبوية، صفحة 1255-1256. بتصرّف.
  2. محمد الغزالي ، فقه السيرة، صفحة 119. بتصرّف.
  3. راغب السرجاني ، كتاب السيرة النبوية، صفحة 9. بتصرّف.
  4. محمد الخضري ، كتاب نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، صفحة 55. بتصرّف.
  5. محمد الخضري ، نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، صفحة 56-55. بتصرّف.
  6. راغب السرجاني، السيرة النبوية، صفحة 2. بتصرّف.
  7. راغب السرجاني، كتاب السيرة النبوية، صفحة 2. بتصرّف.
  8. سعد المرصفي ، كتاب الجامع الصحيح للسيرة النبوية، صفحة 1255-1257. بتصرّف.
  9. راغب السرجاني، كتاب السيرة النبوية، صفحة 2-5. بتصرّف.
  10. راغب السرجاني ، السيرة النبوية، صفحة 3-6. بتصرّف.
  11. موسى بن راشد العازمي ، كتاب اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون، صفحة 386. بتصرّف.
  12. سعد المرصفي ، كتاب الجامع الصحيح للسيرة النبوية، صفحة 386. بتصرّف.
  13. أ.د.راغب السرجاني (21-4-2010)، "الهجرة الأولى إلى الحبشة"، قصة الإسلام، اطّلع عليه بتاريخ 30-8-2021. بتصرّف.
  14. سورة المائدة، آية:82
  15. إسلام ويب (25-12-2011)، "الهجرة إلى الحبشة دروس وعبر"، إسلام ويب ، اطّلع عليه بتاريخ 30-8-2021. بتصرّف.