الدعوة الجهرية

إعلان الجهر بالدعوة

ذهب بعض المحقّقين في تاريخ السيرة إلى أنّ الدعوة لمّا تحولت إلى الجهر بقيت تتضمن السريّة في بعض ثناياها؛ مثل: الدعوات الفرديّة، وفي التجمع والتخفي في دار الأرقم، ولم تتم الدعوة الجهرية بأكملها إلا بعد إسلام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على ظاهر الروايات؛ حيث رجّح أهل العلم أنّ ذلك كان بعد ثلاث سنوات من الدعوة السريّة، إذ أنزل الله -سبحانه على النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)،[١] وقوله -تعالى-: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ).[٢][٣]


عندها خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى قريش ونادى بهم: (يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ؛ لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شيئًا، يا بَنِي عبدِ مَنَافٍ، لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شيئًا، يا عَبَّاسُ بنَ عبدِ المُطَّلِبِ، لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شيئًا، ويَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسولِ اللَّهِ، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شيئًا، ويَا فَاطِمَةُ بنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي ما شِئْتِ مِن مَالِي، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شيئًا).[٤][٣]


وفي رواية أخرى أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- صعد أعلى جبل وقد نادى قريش؛ فلمّا تجمعوا سألهم لو أنّه أخبرهم أنّ مجموعة من العير ستهاجمهم، هل سيصدقونه؟ فأكدوا له أنّهم لم يعلموا منه كذباً قط؛ فقال لهم أنّه رسول من الله إليهم، فخرج عمّه أبو لهب وقال له: (تَبًّا لكَ سَائِرَ اليَومِ، ألِهذا جَمَعْتَنَا؟)؛[٥] فنزلت سورة المسد.[٣]


البدء بالأقربين

ومن الطبيعي أن يبدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- بعشيرته في الدعوة العلنيّة؛ مع أنّ القرآن الكريم ودعوة الإسلام ليست محصورة بقريش أو بمكة وحدها، ولكنّ المجتمع المكيّ في ذلك الوقت كان مليئاً بالعصبية القبليّة، فأراد المولى -سبحانه- أن يبدأ النبي بعشيرته حتى تعينه وتأيّده على أمره، كما أنّ مكة المكرمة كان لها موقعها الخاص والمؤثر في شبه الجزيرة العربيّة، فكل ذلك يؤثر إيجاباً على الدعوة الإسلامية في بدايات ظهورها وإعلانها.[٦]


مدة الدعوة الجهرية

ذكر عدد من أهل السير والتاريخ أنّ الدعوة السريّة استمرت ثلاث سنوات من مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث كان يستتر في أمر دعوته، ويعرضها على من يثق به ويتوسّم فيه الخير والهداية،[٧] ولمّا أمره الله -تعالى- بجهر الدعوة بقي على ذلك حتى نهاية الأمر وحلول الأجل؛ فيكون مجموع سنوات الدعوة الجهريّة عشرون عاماً.[٨]


ومن الجدير بالذكر أنّ الدعوة الجهريّة في العهد المكيّ اتخذت سمات خاصة تتناسب مع بدايات ظهور الإسلام، والحرص على تمكين عقيدة التوحيد بالنفوس، ونقض الشرك والردّ على مزاعم المشركين، والحثّ على مكارم الأخلاق، وكذلك الأمر في العهد المدنيّ؛ حيث تجّلت الدعوة فيه بصورة تتناسب مع تأسيس الدولة الإسلامية، وإثبات نفوذ المسلمين بالمعارك والغزوات، وانتشار الدعوة باتساع رقعة الإسلام، ونزول التشريعات التي تنظم شؤون المسلمين السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والإداريّة.[٩]


أذى قريش للنبي والمسلمين

لقد ترتب على إعلان الدعوة جهراً مواجهة المشركين من قريش بقضايا التوحيد، وإنكار الشرك عليهم، ونقض معتقداتهم وعقائدهم الباطلة؛ وقد واجهوا كل ذلك بالأذى والتعذيب والتنكيل، والسباب والإضرار مادياً ومعنوياً بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وبمن آمن معه من المسلمين؛ وفيما يأتي ذكر بعض المواقف التي تعرّض لها المسلمون في تلك الفترة:[١٠]

  • بدأت قريش أولاً بأسلوب الترغيب والترهيب؛ فأرسلت إلى أبي طالب عمّ النبي تحذّره من نصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- واتّباعه، وتعرض عليه العروض من المال والجاه والزواج وغيرها من الأمور؛ ليغري بها النبي -صلى الله عليه وسلم- ويثنيه عن دعوته؛ ولكنّ النبي بقي على موقفه رافضاً كل هذه المغريات، ومتغاضياً عن كل التهديدات والوعود.
  • لمّا رأت قريش أن لا فائدة ترجى من الإغراء والمساومة؛ عمدت إلى الاتهامات الباطلة التي ألحقتها بالنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ من الجنون والسحر والكذب، ونحو ذلك.
  • ألحق أعمام النبي -صلى الله عليه وسلم ممن لم يسلم معه- به أبشع صنوف الأذى؛ من إلقاء الفضلات، والرمي بالتراب، والخنق بالرداء، والضرب، ومحاولة الاغتيال والقتل؛ حتى بات الصحابة -رضوان الله عليهم- يسألونه الدعاء، وطلب النصر من الله -تعالى-.
  • لجأت سادات قريش إلى تعذيب كل من أسلم واتبع دين الإسلام من فتيانهم، ومواليهم، والمستضعفين من المسلمين؛ كتعذيب بلال بن رباح -رضي الله عنه- من قِبَل أميّة بن خلف، وتعذيب آل ياسر من قِبَل بني مخزوم، والتنكيل والحرمان الذي لحق بمصعب بن عمير من قِبَل والدته، وغيرهم من الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين-.[١١]

المراجع

  1. سورة الشعراء، آية:214
  2. سورة الحجر، آية:94
  3. ^ أ ب ت سعيد حوى، الأساس في السنة وفقهها السيرة النبوية، صفحة 235، جزء 1. بتصرّف.
  4. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:4771، صحيح.
  5. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن عباس، الصفحة أو الرقم:4770، صحيح.
  6. أكرم العمري، السيرة النبوية الصحيحة محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة النبوية، صفحة 143، جزء 1. بتصرّف.
  7. ابن أبي خيثمة، التاريخ الكبير لابن أبي خيثمة، صفحة 193. بتصرّف.
  8. مجموعة من المؤلفين، فتاوى الشبكة الإسلامية، صفحة 224، جزء 4. بتصرّف.
  9. محمد بن صامل السلمي، صحيح الأثر وجميل العبر من سيرة خير البشر صلى الله عليه وسلم، صفحة 31-32. بتصرّف.
  10. سعيد بن وهف القحطاني، مواقف النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله تعالى، صفحة 14-21. بتصرّف.
  11. أبو الحسن الندوي، السيرة النبوية، صفحة 188-189. بتصرّف.