الدروس المستفادة من الهجرة النبوية
إنّ المتأمل في قصص الأنبياء والمرسلين بكتاب الله -تعالى-، يجد أنّ الهجرة سنّة من سنن دعوتهم وبعثتهم؛ وذلك بعد أنْ يبلّغوا أقوامهم ما أمرهم الله -تعالى- به؛ فالخليل إبراهيم -عليه السلام- بعد أنْ ألحّ على أبيه وقومه هاجر من أرض الشرك والوثنية، وكذلك لوط -عليه السلام- لمّا أصرّ قومه على الفاحشة والكبائر خرج من القرية التي حقّ عليها العذاب؛ لهذا فهم النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه السنّة منذ اليوم الأول لدعوته.
وكان هذا ما قال له ورقة بن نوفل أنّ القوم سيخرجوك من مكة المكرمة؛ حينها ردّ -عليه السلام- مستغرباً: (أوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟)، فقال ورقة: (نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ بما جِئْتَ به إلَّا أُوذِيَ، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ حَيًّا أنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا...).[١][٢]
وكانت البعثة والدعوة، وكان معها الإيذاء والإعراض، وكانت الهجرة النبويّة التي زخرت بالدروس والعبر التي يُستفاد منها إلى يومنا هذا؛ من التثبيت، والتوكل، وحسن الأخذ بالأسباب، وتالياً ذكر بعض هذه الدروس والعِبَر.
عناية الله بأوليائه الصالحين
كفى الله -سبحانه وتعالى- نبيّه -صلى الله عليه وسلم- كيد الأعداء، وتآمرهم على القتل والاعتداء؛ فحال بينهم وبين غايتهم، التي عزموا عليها يوم الهجرة، فجمعوا السيوف، والرجال من شتى القبائل؛ ليهدروا دمه -صلى الله عليه وسلم- فتوّلاه المولى، وجعل من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً؛ فعُميت أبصارهم، ونجى النبي من بين أيديهم وهم لا يشعرون.[٣]
وقد تكلّلت عناية الله -سبحانه- لنبيّه في أثناء رحلته كذلك، منذ خروجه من مكة المكرمة، وحتى وصوله إلى المدينة المنورة، فنصره الله -تعالى-، وأنزل سكينته على قلبه، وقلب صاحبه أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، وأفشل كلّ محاولات قريش، فتكفّل الله -تعالى- بحمايته، ومؤازرته، وإمضاء وعده؛ إنّه لا يخلف الميعاد.[٣]
الأخذ بالأسباب
أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأسباب التي تعينه على نجاح وإتمام رحلته؛ وهو النبيّ الكريم المؤيد من الله -تعالى-، ومع ذلك قدّم أروع نموذج في حسن التوكل على الله -تعالى- وعدم التواكل؛ ونذكر من الأسباب التي أخذها النبي -صلى الله عليه وسلم- في رحلته:[٤]
- الحفاظ على السريّة التامّة؛ حيث ذهب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- متخفّياً، متقنعاً بردائه؛ ليخبره بأمر الهجرة.
- الخروج من طريق مغاير؛ فسلك النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه طريقاً مختلفاً عمّا اعتاده الناس.
- الاستعانة بأصحاب الخبرة؛ وذلك باستئجار عبد الله بن أريقط ليكون دليلاً في رحلة الهجرة، وقد كان هذا الرجل خبيراً في الصحراء، عالماَ بطرق تتبع الآثار.
- تأمين الزاد والطعام؛ وهذا يتلخص في دور أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها-، وعامر بن فهيرة الذي كان يأتي بالأغنام ليسقي النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه.
- تأمين المخبأ الآمن؛ وهو غار ثور الذي بقي فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه ثلاثة أيام حتى تهدأ قريش في طلبها وبحثها عنهما.
اتخاذ الصاحب الطيّب
كان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يأتي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يطلب منه الإذن بالهجرة كباقي أصحابه؛ ولكنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يُؤخره، ويطلب منه الانتظار لعلّ الله -سبحانه- يختار له صاحباً، فيغيب أبو بكر -رضي الله عنه- ثم يعود للاستئذان بالهجرة، فيردّ عليه النبي الكريم بذات الكلام، حتى أذن الله -تعالى- لنبيّه وصاحبه بالهجرة؛ فكان أبو بكر الصديق صاحب النبي في هجرته، وقد بكى من شدّة فرحه بهذه الصحبة.[٥]
ويمضي أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- في الهجرة مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيُرى منه العجب في شدّة حبّه وحرصه على رسول الله؛ ففي أثناء السير كان يتقدم على النبي مرة، ومرة أخرى يتأخر، ثم يتحول عن يمينه تارة، ويتحول عن شماله تارة أخرى؛ خوفاً من أن يرصد النبي -صلى الله عليه وسلم- أحد، أو يضع له كميناً.[٦]
التضحية والبذل
أكدّت هذه الرحلة العظيمة على أنّ البذل والتضحية أساس النصر، وأنّ الدعوة لله -تعالى- لا بد أن يكون معها الفداء بالمال والنفس والوقت؛ فهذا النبيّ الكريم -صلى الله عليه وسلم-، يُضحي ويعاني في سبيل إعلاء كلمة الله -تعالى- ونصرة دعوته؛ فيخرج من بلده ووطنه، ويُفارق أهله وأحباءه، ويعاني من ظلمة الليل، وحرّ الشمس، وطول الطريق، ومشقة السفر.[٧]
إضافةً إلى المطاردة وتقديم الغالي والنفيس في سبيل الوصول إليه -صلى الله عليه وسلم-، إلا أنّ ذلك كلّه لم يثنه عن غايته وهدفه في دعوته، كما تجلّت مواقف الفداء والتضحيّة في أفعال عدد من الصحابة الكرام؛ الذين كانوا عوناً للنبي -صلى الله عليه وسلم- في رحلته؛ نذكر منها:[٨]
- موقف عبد الله بن أبي بكر -رضي الله عنهما-؛ الذي كان يستمع إلى أخبار قريش، ويراقب تحركاتها؛ ثم يأتي بها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في الغار؛ ليأخذ حذره من ذلك، ويحول بينهم وبين تدبيرهم.
- علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-؛ الذي تأخر في خروجه من مكة المكرمة ليعيد الأمانات إلى أهلها؛ والتي كان يستودعها الناس عند النبي -صلى الله عليه وسلم- لعلمهم بصدقه وأمانته.
المراجع
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم:4953، صحيح.
- ↑ موسى بن راشد العازمي، اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون، صفحة 175، جزء 1. بتصرّف.
- ^ أ ب عبد الحي يوسف، دروس الشيخ عبد الحي يوسف، صفحة 4، جزء 4. بتصرّف.
- ↑ جامعة المدينة العالمية، أصول الدعوة وطرقها، صفحة 157-164. بتصرّف.
- ↑ بحرق اليمني، حدائق الأنوار ومطالع الأسرار في سيرة النبي المختار، صفحة 208-209. بتصرّف.
- ↑ صالح المغامسي، دروس للشيخ صالح المغامسي، صفحة 11، جزء 20. بتصرّف.
- ↑ عائض القرني، دروس الشيخ عائض القرني، صفحة 7، جزء 94. بتصرّف.
- ↑ منير الغضبان، فقه السيرة النبوية، صفحة 332-335. بتصرّف.