أعمال الرسول في المدينة

لمّا هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة؛ قام بعدد من الأعمال والخطوات الهامّة وفق ترتيب حكيم، فقد كان النبي القائد -صلى الله عليه وسلم- يتطلّع إلى تأسيس دولة إسلاميّة تقوم على أسس راسخة، ودعائم ثابتة منذ البداية؛ لذا كانت أعماله وحركاته في المدينة المنورة مدروسة دقيقة، متدرجة وممهدة لما بعدها من الترتيبات، ويمكن بيان أعمال النبي -صلى الله عليه وسلم- الأولى في المدينة المنورة على النحو الآتي:


بناء المسجد

كانت أول خطوات النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد الهجرة بناء مسجد قباء؛ حيث كان المسجد مكاناً يحفظ للمسلمين دينهم، ويقويّ أواصرهم، ويعينهم على أداء عباداتهم وطاعتهم لله -تعالى-، كما كان رمزاً لتصويب أقوالهم وأفعالهم؛ فكيف لمن اجتمع في بيت الله -تعالى- أن يخالفه!.[١]


وقد تمّ بناء المسجد من الحصى، والتراب، وأوراق الشجر، بعد أن أذن الله -تعالى- لناقة النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تجلس في المكان الذي اختاره الله -سبحانه- لبناء المسجد، وقد شارك النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه هذا العمل بروح ملؤها الطاقة، والسرور، والبهجة؛ دون تكلّف أو استعلاء منه -صلى الله عليه سلم-.[١]


المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار؛ تحقيقاً للترابط والتكافل فيما بينهم، فكانت المؤاخاة بين المهاجرين أنفسهم، وبين غيرهم من الأنصار؛ فقد آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وبين حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة -رضي الله عنهما-، وبين عبد الله بن الزبير وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما-، وكل هؤلاء الصحابة من المهاجرين.[٢]


ولقد بدأت المؤاخاة في المسجد بعد إتمام بنائه، وكانت تتجدد كلّما ظهر مسلم جديد، أو بقدوم مهاجر جديد إلى المدينة المنورة، وقد ظهر في هذه المؤاخاة أخلاق الأنصار الجليلة، وضربوا أروع الأمثلة، وقدّموا أعظم النماذج على الإيثار، والبذل، والعطاء، وحسن الضيافة، والتجرد من الشحّ والبخل.[٢]


حتى امتلأت قلوبهم حباً لله ولرسوله الكريم، ولإخوانهم المهاجرين؛ فقال -تعالى- في مدحهم: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).[٣][٢]


وثيقة المدينة

انتشر الإسلام في المدينة المنورة خلال الأيام الأولى من دخول النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلم يبقَ بيتاً إلا وقد دخله الإسلام؛ لذا رأى النبي الكريم لزوم تنظيم علاقة المسلمين مع بعضهم البعض، ومع غيرهم من أفراد المجتمع؛ فكانت وثيقة المدينة المنورة بمثابة دستور إسلاميّ سمح؛ ينبذ التعصّب والمغالاة في رفض الآخر، ويعطي الحريات والمساحات التي تكفل لجميع الأطراف العيش بسلام وأمان على أرض المدينة المنورة.[٤]


وقد نتج عن هذه الوثيقة ما يأتي:[٤]

  • ضبط العلاقة بين أبناء المجتمع المدني؛ مؤمنهم وكافرهم، يهوداً وأنصاراً ومهاجرون.
  • الحريّة الدينية التي تشمل حرية الاعتقاد، وحرية إقامة الشعائر.
  • حماية المدينة المنورة مسؤولية جميع أبناء المجتمع على اختلاف أديانهم وأصولهم.
  • عصمة الأموال والأنفس والممتلكات، والتكفّل بحمايتها ورعايتها، وتنظيم العقوبات على كل من يخالف ذلك.
  • تحديد المرجعيّة الصحيحة التي يُلجأ إليها عند التنازع والاختلاف؛ بردّها إلى حكم الله -تعالى- وإلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
  • منع التحالف ضد أي طرف من الأطراف التي تعاهدت بهذه الوثيقة.
  • التعاهد على نصرة المظلوم، وعدم التعدّي والظلم مما كان سائداً في المجتمع المدنيّ قبل قدوم النبي -صلى الله عليه وسلم-.


إعداد وتجهيز الجيش

أذن الله -سبحانه وتعالى- لنبيّه الكريم بالقتال والحرب بعد أن كان مأموراً بالصبر والدعاء والتحمّل؛ فقد كانت بدايات الإسلام تركز على بناء الفرد المسلم، والجماعة المسلمة؛ وتؤكد على ترسيخ معاني العقيدة في النفوس، كما أنّ عدد المسلمين في أول الدعوة الإسلامية لم يكن كبيراً؛ فلو كتب الله عليهم القتال والجهاد لما تحمّلوا كل هذا العدوان، وكل هذه الضربات التي وجّهت إليهم؛ ولتشتتوا وانتهى أمرهم، وضاعت دعوتهم.[٥]


ولا يُغفل أيضاً عن طبيعة البيئة القبليّة التي كانت منتشرة بمكة المكرمة؛ التي يكون القتال معها أكبر استفزاز للمشركين، ولسعوا إلى إبادة المسلمين ودعوتهم بأقسى الطرق والوسائل؛ ولكان هذا كافياً لتجنّب القبائل الأخرى الدخول في الإسلام، ومحالفة المسلمين. ولمّا نزل الإذن بالقتال بقوله -تعالى-: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ...).[٦][٥]


وقوله -تعالى-: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ...)؛[٧] بدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- يُعدّ المسلمين لهذا الأمر، ويطور مهاراتهم العسكريّة والقتاليّة؛ ويحثّهم ويحفّزهم على الإقبال والانتصار لله ورسوله، فكان طوراً جديداً يشهده المسلمون في حياتهم الجديدة في مكة المكرمة.[٥]

المراجع

  1. ^ أ ب راغب السرجاني، السيرة النبوية، صفحة 11-12، جزء 15. بتصرّف.
  2. ^ أ ب ت أحمد أحمد غلوش، السيرة النبوية والدعوة في العهد المدني، صفحة 110-112. بتصرّف.
  3. سورة الحشر، آية:9
  4. ^ أ ب سعيد حوى، كتاب الأساس في السنة وفقهها السيرة النبوية، صفحة 403-407، جزء 1. بتصرّف.
  5. ^ أ ب ت عماد الدين خليل، دراسة في السيرة، صفحة 130-133. بتصرّف.
  6. سورة الحج، آية:39-40
  7. سورة البقرة، آية:193