الدعوة السرية

اقتضت حكمة الله -تعالى- أن تكون دعوة الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- سريّةً أول الأمر قبل أن يأمره -سبحانه- بالجهر بها في قوله: (فَاصدَع بِما تُؤمَرُ وَأَعرِض عَنِ المُشرِكينَ)،[١] إذ إنّ طبيعة الدعوة تقتضي الجهر والإعلان والظهور، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ).[٢][٣]


كم استمرت الدعوة السرية؟

استمرّت الدعوة السرية في مكّة المكرّمة ثلاث سنواتٍ، ذلك أنّ دعوة الرسول -عليه الصلاة والسلام- كانت على فترتَين؛ الأولى: المكيّة التي استمرّت ثلاث عشرة سنةً منها ثلاث سنواتٍ كانت الدعوة فيها سرّاً وعشر سنواتٍ جهراً باللسان فقط من السنة الرابعة للبعثة حتى الهجرة إلى المدينة المنورة، والثانية: المدنيّة التي استمرّت عشر سنواتٍ،[٤] وقد وردت عدّة أدلةٍ تُثبت سريّة الدعوة في بدايتها بيان البعض منها آتياً:[٥]

  • أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عمرو بن عبسة: (كُنْتُ وَأَنَا في الجَاهِلِيَّةِ أَظُنُّ أنَّ النَّاسَ علَى ضَلَالَةٍ، وَأنَّهُمْ لَيْسُوا علَى شيءٍ وَهُمْ يَعْبُدُونَ الأوْثَانَ، فَسَمِعْتُ برَجُلٍ بمَكَّةَ يُخْبِرُ أَخْبَارًا، فَقَعَدْتُ علَى رَاحِلَتِي، فَقَدِمْتُ عليه، فَإِذَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مُسْتَخْفِيًا جُرَءَاءُ عليه قَوْمُهُ، فَتَلَطَّفْتُ حتَّى دَخَلْتُ عليه بمَكَّةَ).[٦]
  • أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال له لمّا أسلم: (يا أبَا ذَرٍّ، اكْتُمْ هذا الأمْرَ، وارْجِعْ إلى بَلَدِكَ، فَإِذَا بَلَغَكَ ظُهُورُنَا فأقْبِلْ).[٧]


الحكمة من الدعوة السرية

أراد الله -تعالى- أن تكون دعوة الرسول -عليه الصلاة والسلام- سريةً بادئ الأمر تحقيقاً للعديد من الغايات والحِكم التي يُذكر منها:[٥]

  • تهيئة الأمور والنفوس لاستقبال الدعوة إلى توحيد الله -تعالى- وعدم الإشراك به شيئاً، إذ إنّ مكة المكرمة كانت مركزاً للدِين لدى العرب، ومكان الأصنام والأوثان المقدّسة، ولذلك كان من الصعب جداً نبذ عبادتها دفعةً واحدةً، فدعا الرسول -عليه الصلاة والسلام- المقرّبين منه من آل بيته وأصحابه ومَن عَلِم فيهم خيراً.[٨]
  • خَلقُ فرصةٍ مناسبةٍ حتى تسمع القبائل بدِين الله في مراسمهم واحتفالاتهم وأسواقهم وأماكن تجمعاتهم، حتى أتوا مكّة المكرّمة لاحقاً يتحسّسوا أخبار دعوة محمدٍ -عليه الصلاة والسلام- خفيةً وسرّاً، وقد وصلوا إلى مكانها أيضاً وكانت حينها في دار الأرقم، فآمنوا بمحمدٍ ورسالته وصدّقوه ونصروه وآزروه.
  • ضمان حماية الدعوة في بدايتها، إذ لا يُمكن مواجهة المجتمع بما نشأ عليه من عبادة الأصنام في بداية الدعوة دون أن يوجد عددٍ كافٍ من مناصريها لحمايتها والاستمرار في نشرها، فقد ضَمِنت الدعوة السرية بذلك الاستمرارية.
  • بناء مجتمعٍ مسلمٍ بعيداً عن المعوّقات التي قد تواجهه في المجتمع والفِكر، فقد كوّن النبيّ -عليه السلام- خلال مدّة الدعوة السريّة مجتمعاً قوياً متماسكاً قادراً على مواجهة ما يتعرّض له، وجهر بها في الوقت المناسب بعد إيمان عددٍ يتمكّن من حماية الدعوة والتضحية في سبيلها.


المراجع

  1. سورة الحجر، آية:94
  2. سورة المائدة، آية:67
  3. د. هند بنت مصطفى شريفي (19/3/2016)، "أسلوب الكتمان في الدعوة إلى الله"، الألوكة، اطّلع عليه بتاريخ 12/8/2021. بتصرّف.
  4. موسى بن راشد العازمي، اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون، صفحة 192. بتصرّف.
  5. ^ أ ب د. محمد أمحزون (2010/4/10)، "الحكمة من الدعوة السرية"، قصة الإسلام، اطّلع عليه بتاريخ 12/8/2021. بتصرّف.
  6. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عمرو بن عبسة، الصفحة أو الرقم:832، صحيح.
  7. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي ذر الغفاري، الصفحة أو الرقم:3522، صحيح.
  8. صفي الرحمن المباركفوري، الرحيق المختوم، صفحة 65. بتصرّف.