حَفَلت سيرة النبيّ -عليه الصلاة والسلام- بأحداثٍ كثيرةٍ، منها ما كان له أثرٌ عظيمٌ في الدعوة الإسلاميَّة، ودورٌ مفصليّ في قوّة المسلمين ودولتهم، علاوةً على ما شملته هذه الأحداث من دروسٍ وعبرٍ للصحابة -رضي الله عنهم- والمسلمين من بعدهم، وفيما يأتي بيانٌ للدروس والعبر المستفادة من حدثين جليلين من أحداث السيرة النبويّة، وهما: صلح الحديبية، وفتح مّكة.
صلح الحديبية وفتح مكّة: دروسٌ وعبرٌ
بين يدي صلح الحديبية
خرج النبيّ -عليه الصلاة والسلام- وجمعٌ من الصحابة -رضي الله عنهم- يُقارب عددهم ألفًا وخمسمئةٍ، متّجهين إلى مكّة المكرّمة؛ لأداء العمرة، بعد أن رأى النبيّ -عليه الصلاة والسلام- في منامه أنّه يدخل مكّة المكرّمة؛ فاستعدّ للخروج إلى العمرة برفقة صحابته، يسبقهم الهدي من الأنعام الذي يذبحه المعتمر فديةً، ولم يحمل معه سلاحًا؛ ليُعلم قريش أنّه خرج للعمرة ولا يُريد قتالًا، إلّا أنّ قريش حين علمت بقدوم النبيّ -عليه الصلاة والسلام-، أردات الحرب أولًا، إلى أن وصل النبي إلى منطقة الحديبية، وجاءه رجالٌ من قبيلة خزاعة يسألونه عن سبب قدومه؛ فأخبرهم أنّه جاء معتمرًا، فأخبر رجال خزاعة قريشًا بذلك، إلّا أنّهم تمنّعوا من دخول النبيّ -عليه الصلاة والسلام-.[١]
وأرسل النبيّ -عليه الصلاة والسلام- عثمان بن عفان -رضي الله عنه- إلى قريش يحاورهم فتأخّر، وأُشيع بين الصحابة أنّه قد قُتل؛ فبايع النبيّ -عليه الصلاة والسلام- أصحابه عند شجرةٍ في الحديبية على قتال قريشٍ، وحين علمت قريش بذلك؛ أرسلت له سهيل بن عمرو، ليعقد الصلح معه، وتمثّلت بنود الصلح بعودة النبيّ ومن معه إلى المدينة هذا العام والقدوم للعمرة في العام المقبل، وأن يردوا من جاءهم من مكة مسلمًا، وهذه الشروط أحزنت الصحابة وثقلت عليهم بما فيهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، إلّا أنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- أخبرهم أنّ الله -تعالى- لن يضيّعه، وأنّ في الأمر خيرًا للمسلمين، وقام وتحلّل من إحرام العمرة وذبح الهدي، ثمّ فعل الصحابة مثله.[١]
الدروس والعبر المستفادة من صلح الحديبية
بعد عرض أحداث ومجريات صلح الحديبية؛ فيما يأتي ذكرٌ لأبرز الدروس والعبر المستخلصة منه:[٢]
- وجوب طاعة النبيّ والتزام أمره: حتّى وإن كان في الأمر ثقلٌ على المسلمين أو شعروا بظلمٍ لهم؛ كما حصل حين وافق النبي على شروط الحديبية، وحزن الصحابة لذلك، وتأخروا في الاستجابة لأمره لهم بالتحلل من الإحرام.
- أهميَّة الشورى: فقط أكّد النبيّ -عليه الصلاة والسلام- على أهمّية الشورى، وكيف أنّ فيها إرشادًا للخير؛ فقد قبل -عليه الصلاة والسلام- مشورة زوجته أمّ سلمة -رضي الله عنها- حين تأخر الصحابة عن إجابة النبيّ بالتحلل من الإحرام؛ فأشارت أمّ سلمة على النبيّ بأن يتحلّل من الإحرام هو أوّلًا، ثمّ سيفعل الصحابة مثله؛ ففعل.
- أهمّية القدوة العمليّة: حيث أنّ الصحابة اتبعوا النبيّ -عليه الصلاة والسلام- بعد أن رأوه يتحلّل من الإحرام ويذبح الهدي.
- الخير يكمن فيما ظاهره شرٌّ: فرغم بنود صلح الحديبية التي شعر الصحابة -رضي الله عنهم- أنّ فيها ظلمًا لهم وتنازلًا من قِبلهم لقريش، إلّا أنّ هذا الصلح كان مقدِّمةً وتمهيدًا لفتح مكّة المكرّمة.
بين يدي فتح مكّة
بدأت قريش ترى تبعات صلح الحديبة، وكيف أنّ قوّة المسلمين بعده زادت، بدخول عددٍ من القبائل في حلفهم، ومحاولة كثيرٍ من رجال قريش للالتحاق بالمسلمين؛ فما كان من قريش إلّا أن نقضت أحد بنود صلح الحديبية؛ بمناصرتها لقبيلة بني بكر -وكانت حليفةً لها- على قبيلة خُزاعة -وكانت حليفةً للنبيّ-، وأمدت قريشُ بني بكرَ بالسلاح ورجال، وقتلت بنو بكر من خزاعة رجالًا في الحرم، ولم تراعي حرمته، ثمّ أدركت قريش عظم ما ارتكبت، وخشيت من ردّ فعل المسلمين؛ فأرسلوا أبا سفيان، ليدعوا النبيّ -عليه الصلاة والسلام- للإبقاء على الصلح؛ فرفض النبيّ -عليه الصلاة والسلام- ذلك.[٣]
وجهز النبيّ -عليه الصلاة والسلام- جيشًا عظيمًا بلغ تعداده نحو عشرة آلاف مقاتلٍ، ولم يُعلمهم بوجهتهم، وفي طريقهم لقوا أبا سفيان، وأخبره العباس أنّه لا طاقة لقريش بقتال المسلمين؛ فأسلم أبو سفيان، وأخبره النبيّ -عليه الصلاة والسلام- أنّ يبلّغ قريش بأنّ من دخل بيه فهو آمنٌ، ومن دخل المسجد فهو آمنٌ، ومن أغلق عليه بيته؛ فهو آمنٌ، فأخبر أبو سفيان قريش بذلك، ودخل النبيّ -عليه الصلاة والسلام- مكّة فاتحًا، وكان أوصى صحابته بألّا يُقاتلوا إلى إذا اضطروا لذلك، ولم يُقتل إلّا قلّة من قريش عرفوا بمحاربتهم الشديدة للنبيّ والدعوة، وبعد أن دخل النبيّ -عليه الصلاة والسلام- مكة؛ هدّم الأصنام عند الكعبة، وطاف حولها، وعفا عن أهل مكّة المكرّمة.[٣]
الدروس والعبر المستفادة من فتح مكّة
تتجلّى في فتح النبي لمكّة جملةٌ من الدروس والعبر التي يمكن استخلاصها من أحداثها، ومن هذه الدروس والعبر ما يأتي:[٤]
- التمكين للمسلمين ودولتهم: فبعد أن كانت الغلبة والقوة لقريش، وكانت تسيطر على القبائل العربيّة، دانت القبائل العربية بعدها للنبيّ -عليه الصلاة والسلام-، وزادت هيبة المسلمين في نفوس هذه القبائل.
- تحقّق وعد الله: فقد حقّ الله -تعالى- وعده للنبيّ -عليه الصلاة والسلام- بدخوله مكّة المكرّمة فاتحًا منتصرًا.[٥]
- حرمة مكّة المكرّمة: فإنّ لبيت الله الحرام حرمةً حفظها النبيّ -عليه الصلاة والسلام- وصحابته؛ فلم يُقاتلوا فيها؛ صيانةً لحرمتها.
- تواضع النبيّ: فرغم أنّه -عليه الصلاة والسلام- دخل مكّة منتصرًا، إلّا أنّه دخلها متواضعًا لله -تعالى-.
- العفو عند المقدرة: فرغم ما فعلته قريش بالنبيّ -عليه الصلاة والسلام- من أذى طوال سنين دعوته، إلّا أنّه -عليه الصلاة والسلام- لم ينتقم منهم رغم قدرته على ذلك، وعفا عنهم.
- إزالة مظاهر الشرك والعبوديّة لغير الله: حيث سارع النبيّ -عليه الصلاة والسلام- إلى هدم الأصنام المنثورة حول الكعبة المشرّفة بعد دخوله مكّة المكرّمة.
المراجع
- ^ أ ب مصطفى السباعي، السيرة النبوية دروس وعبر، صفحة 92-96. بتصرّف.
- ↑ "صلح الحديبية دروس وعبر"، إسلام ويب، 11/1/2011، اطّلع عليه بتاريخ 25/8/2022. بتصرّف.
- ^ أ ب عماد الدين خليل، دراسة في السيرة، صفحة 201-208. بتصرّف.
- ↑ محمد بن صامل السلمي، صحيح الأثر وجميل العبر من سيرة خير البشر، صفحة 257. بتصرّف.
- ↑ مصطفى السباعي، السيرة النبوية دروس وعبر، صفحة 126-127. بتصرّف.