مواقف تدل على ثبات الرسول

إنّ الناظر في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- يجدها زاخرة بالمواقف والأحداث التي تبيّن ثباته -صلى الله عليه وسلم-، وقوة تماسكه، وصموده أمام العقبات؛ فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أشمّاً ثابتاً، ولم يكن هيّاباً متردداً؛ ونورد فيما يأتي بعض المقتطفات من السيرة النبويّة العطرة، والتي تدلّ على ثبات النبي -صلى الله عليه وسلم-:


ثبات الرسول أمام مغريات قريش

اجتمعت قريش ذات يوم للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ وذلك في بدايات دعوته -صلى الله عليه وسلم- لأهل مكة المكرمة، فقام إليه يُكلمه عتبة بن أبي ربيعة؛ وطلب منه أن يتراجع عمّا يدعو إليه وعمّا يقوله للناس؛ وقد عرض عليها المغريات الكثيرة؛ ظناً من قريش أنّ دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت مجرد لفت للأنظار، أو رغبةٍ بمال أو جاه.[١]


وقد كان مما عرضه القوم على النبي -صلى الله عليه وسلم- المال الكثير؛ حتى يكون أكثرهم مالاً، ثم عرضوا عليه أن يكون كبير القوم وقائدهم؛ فلا يقطعون أمراً، ولا يُعرِضون عن آخر إلا بأمره، ثم عرضوا عليه المُلُك، والعديد من الأمور التي قد تغترّ بها النفس البشريّة؛ إلا أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ظلّ ثابتاً حتى فرغ عتبة من كلامه؛ وبعدها أخذ يقرأ عليه آيات من سورة السجدة؛ إذ لم يُفوّت النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الفرصة دون دعوته.[١]


حتى إذا جاء موضع السجود سجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعتبة ينظر إليه؛ فلمّا انتهى رجع عتبة إلى قريش مذهولاً مدهوشاً، قد بدا ذلك على وجهه، وقد قال للقوم إنّ هذا الرجل -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- لن يترك ما هو عليه، فاعتزلوه ودعوه يتكلّم بما شاء؛ فإن يظهر عليكم يكون شرفه شرفكم، وعزه عزتكم؛ فغضبت قريش، واتهموه بأنّه سُحر بما سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم-.[١]


ثبات الرسول في غار ثور

هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة برفقة صاحبه أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، وقد كانت خطة السير في هذه الهجرة النبويّة تقتضي النزول في غار ثور؛ لئلا تتبع قريش سير النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه؛ فتمسك بهما وتمنعهما من الهجرة؛ ولمّا وصل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر الصديق -رضي الله عنه- إلى الغار، دخل الصدّيق أولاً إلى الغار ليستبرئه؛ أيّ ليتفقده من الهوام والحشرات خوفاً على النبي -صلى الله عليه وسلم-.[٢]


وبعدها أذن لرسول الله بالدخول، وقد كان عبد الله بن أبي بكر -رضي الله عنهما- يأتي إلى الغار ليقصّ على النبي وصاحبه أخبار قريش؛ ثم يلحق به عامر بن أبي فهيرة -رضي الله عنه- بغنمه لينال النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه من لبنها، ثم يخرج عبد الله، وعامر بالأغنام ليُخفيا آثارهما عن الغار، وبينما كان رسول الله والصديق في الغار مرّ جمعٌ من المشركين بالغار، وقد تسللت إليهم الشكوك بأنّ رسول الله وصاحبه قد يكونان فيه؛ فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر حديث المشركين هذا.[٢]


ثم سمعوا وقع أقدامهم وهم يتقدمون إلى الغار؛ ففزع أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- من ذلك فزعاً شديداً؛ خوفاً على رسول الله من قريش، وأخذ يتصبب الصديق عرقاً وهو يقول: (... يا رَسولَ اللَّهِ، لو أنَّ أحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ رَآنَا...)؛[٣] لكنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- هدّأ من روع الصديق، وقال له بكل ثبات: (... ما ظَنُّكَ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟)؛[٣] فحمى الله -تعالى- نبيّه وصاحبه، وأعمى أبصار المشركين عنهما.[٢]


ثبات الرسول في غزوة أحد

لمّا كانت غزوة أحد بين المسلمين ومشركي قريش بعد غزوة بدر الكبرى التي انتصر فيها المسلمون؛ عادت قريش لتنتقم، وقد امتلأت غيظاً وشراً، ففي هذه المعركة أشاعت قريش أثناء القتال أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قُتل؛ وقد تزامن ذلك مع نزول الرماة عن الجبل، والتفاف المشركين على المسلمين مرّة أخرى بعد الهزيمة؛ مما أوهن قلوب المسلمين، وجعلهم يقعدون عن القتال بسبب هذا الخبر.[٤]


ولكنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ظلّ يقاتل ويدافع وهو في مؤخرة الجيش؛ فيقتل المشركين المحيطين به من كل جانب دون توقفّ، وهو يقول لصحابته بأن هلمّوا إليّ عباد الله، فكان أول من رآه وعرفه بعد شائعة القتل هو كعب بن مالك -رضي الله عنه-، فأخذ ينادي على المسلمين ليخبرهم أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يُقتل؛ إلا أنّ النبي -صلوات الله عليه- بحكمته البالغة أشار إليه أن يُنصت؛ لئلا يصل الخير إلى قريش، فتعاود الكرّة على المسلمين.[٤]


ولما اجتمع حول النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلّة من الصحابة، ساروا به إلى صخرة فوق الجبل، وذاع الخبر بين جموع المسلمين؛ فقويت العزائم، واشتد القتال، ثم حمل طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- النبي -صلى الله عليه وسلم- على ظهره حتى كشف ساحة المعركة، وأخذ يُشير على المسلمين، ويُرشدهم بالتحركات وصدّ ضربات المشركين، وهو متعب -صلى الله عليه وسلم- نزف الكثير من الدماء أثناء قتاله وجهاده؛ إلى أن قَدِر المسلمين على الجبل الذي كان يعلوه رهط من المشركين، فقاتلوا عليه، وحموا النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى تراجعت الجيوش، وانتهى بذلك القتال بهزيمة المسلمين.[٤]

المراجع

  1. ^ أ ب ت محمد يوسف الكاندهلوي، حياة الصحابة، صفحة 69-70، جزء 1. بتصرّف.
  2. ^ أ ب ت محمد الطيب النجار، القول المبين في سيرة سيد المرسلين، صفحة 176-177. بتصرّف.
  3. ^ أ ب رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي بكر الصديق، الصفحة أو الرقم:4663، صحيح.
  4. ^ أ ب ت محمد أبو شهبة، السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة، صفحة 198-199، جزء 2. بتصرّف.