ما تظنون أني فاعل بكم

متى قالها الرسول؟

دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة المكرمة في السنة الثامنة للهجرة فاتحاً، بعد أن نقضت قريش صلحها مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، والذي اتفق عليه بين الطرفين يوم الحديبيّة؛ فلمّا دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة المكرمة، أعلن لأهلها الأمان؛ وذلك لكل من أغلق عليه بابه، أو دخل المسجد، أو ذهب إلى بيت أبي سفيان واحتمى به؛ فلم يحصل بذلك أيّ مناوشات أو قتال إلا في بعض أطراف مكة.[١]


ولمّا دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- اجتمع أهل مكة المكرمة عنده؛ وتروي العديد من الكتب والمصنفات أنّ أهل مكة كانوا ينتظرون حكمه -صلى الله عليه وسلم- فيهم؛ فقال لهم النبي: (ماذا تظنّون أنّي فاعل بكم؟)، قالوا: (خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم)، فأعلن النبي -صلى الله عليه وسلم- العفو العام عنهم؛ وقال لهم: (اذهبوا فأنتم الطّلقاء)؛ فأنزل الله -تعالى- قوله: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ).[٢][٣]


لماذا قالها الرسول؟

تُرسّخ هذه المقولة التّأكيد على رحمة النبيّ الكريم بالنّاس، وكظمه لغيظه، وعفوه عمّن أساء له؛ رغبة في دخولهم بالإسلام، وحرصاً على نجاتهم من عذاب الله -تعالى-، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ).[٤]


وهكذا فقد قابل النبي -صلى الله عليه وسلم- ظلم قريش، وتآمرهم، وإيذائهم، وحروبهم، وإشعالهم الفتن، ومحاولات الاغتيال والقتل للنبي -صلى الله عليه وسلم-، قابلها بالعفو والتسامح، والتجاوز والصفح؛ بعد أن دخل إليهم عزيزاً منتصراً، مؤيداً مؤزراً، يحمل معه عشرة آلاف من المسلمين.[٥]


وكان هذا الدّخول الآمن لمكة المكرّمة درساً عظيماً؛ جعل قريش تتذكر صلة قرابتها بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وتستنجد بصلة الرحم، وتتذكر حسن أخلاقه -عليه السلام-، فعفا عنهم النبي مع قدرته عليهم، فكان هذا هو النصر الحقيقيّ،[٦]إضافةً إلى أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- عفا عن قريش شكراً لله -تعالى-، وتواضعاً على هذه النعمة.


وبعد أن دخل مكة في ذلك المشهد المهيب، واليوم التاريخي المشهود ليطهرها من كل مظاهر الشرك والوثنيّة، ويدخل أهلها أفواجاً في دين الله -تعالى-، ما كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يطغى -وحاشاه-، أو يتكبّر، أو يرغب في إذلال أهله وأقاربه، وعشيرته؛ إنّما تمّ له ما رجاه منذ بعثته، فترك الانتقام لنفسه، وخشع لله -سبحانه-؛ الذي أعزّ جنده، ونصر نبيّه، وهزم جموع الكفر وأرغمهم بالخضوع.


صحة هذه المقولة

ضعّف عدد من أهل العلم الحديث الذي سبق ذكره، والحوار الذي دار بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وقريش؛ فقالوا بأنّه لم يثبت بإسناد صحيح، وفي سنده جهالة وإرسال، كما تُكلّم في عدد من رجال السند؛ الذين عرفوا بكثرة الأوهام والاختلاط؛ إلا أنّهم استدلوا بعدد من الأحاديث الصحيحة على أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أطلق العفو العام عن أهل مكة حين قال لهم: (... من دخلَ داره فهوَ آمِنٌ، ومن ألقى السِّلاحَ فهوَ آمنٌ...).[٧][٨]


وفي رواية أخرى: (... من دخل دارَ أبي سفيانَ فهو آمنٌ...)،[٩] بالإضافة إلى أنّ لفظ الطلقاء ثابت في السنّة النبويّة؛ إذ ثبت في الصحيحين أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم حُنين: (... أعْطَى الطُّلَقَاءَ والمُهَاجِرِينَ، ولَمْ يُعْطِ الأنْصَارَ شيئًا...)؛[١٠] وقد قيل في تعريف الطّلُقاء: هم الذين منّ عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح، فخلّى سبيلهم، بعد أن صار وثاقهم بيده -صلى الله عليه وسلم-.[١١]

المراجع

  1. أبي الحسن الندوي، السيرة النبوية، صفحة 443-450. بتصرّف.
  2. سورة النحل، آية:126
  3. مجموعة من المؤلفين، نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم، صفحة 369، جزء 1. بتصرّف.
  4. سورة الأنبياء، آية:107
  5. محمد بن أحمد باشميل، من معارك الإسلام الفاصلة موسوعة الغزوات الكبرى، صفحة 12، جزء 8. بتصرّف.
  6. عطية سالم، شرح بلوغ المرام، صفحة 4، جزء 170. بتصرّف.
  7. رواه أبو داود، في سنن أبي داود، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:3024، صححه أبو داود.
  8. "حديث : ( اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ )"، الإسلام سؤال وجواب، اطّلع عليه بتاريخ 20/3/2023. بتصرّف.
  9. رواه الإمام أحمد، في المسند، عن عبد الله بن عباس، الصفحة أو الرقم:2392، قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح.
  10. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم:4333، صحيح.
  11. أبو العباس القرطبي، المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، صفحة 106، جزء 3. بتصرّف.