الصدق في حياة الرسول

لقد اصطفى الله -سبحانه- سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، وقد تكفّل الله بحسن تهيئته لذلك؛ فكان من أحاسن القوم أخلاقاً، أميناً صادقاً حسن المعشر، واصلاً للرحم، مكرماً للضيف، معيناً للضعفاء؛ لم يُعرف عنه أنّه ارتكب المحظورات أو أتى بالمنكرات قبل بعثته؛ كما كان مثالاً يُحتذى بعد بعثته -صلى الله عليه وسلم-، وقد أكد الله -تعالى- على ذلك في كتابه حين قال: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ)،[١] ويمكن تسليط الضوء على خلق النبي -صلى الله عليه وسلم- وصدق حديث على النحو الآتي.


الصادق الأمين

اشتهر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصدق والأخلاق الحسنة منذ نشأته وشبابه، وقد عُرف عنه ذلك حتى ذاع خبره بين قبيلته؛ ومن المواقف التي تدل على هذا قصّة منازعة قبائل قريش على إرجاع الحجر الأسود إلى مكانه؛ حيث كانت كل قبيلة حريصة على نيل هذا الشرف العظيم، وذلك حينما قاموا بإعادة ترميم بناء الكعبة بعدما أصابها الطوفان؛ وقد علت أصواتهم وكادوا يقتتلون بينهم، وتنازعوا في أمرهم وبقوا على حالهم هذا أربع ليال.[٢]


حتى رأى كبار القوم تحكيم أول من يدخل عليهم من باب المسجد؛ فكان أول من دخل عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال القوم: "هَذَا الْأَمِينُ رَضِينَا بِهِ"، فلمّا جاءهم وقصّوا عليه الخبر، رأى أن يجعل الحجر في ثواب واحد؛ لتأخذ كل قبيلة طرفاً من الثوب لتشارك في حمل الحجر الأسود، فلمّا وصلوا مكانه رفعوه واستلمه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأعاده إلى مكانه، فكان ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- حلاً صائباً أرضى فيه جميع الأطراف، وقيل إنّهم بعد ذلك كانوا إذا أرادوا ذبحاً أرسلوا إليه -صلى الله عليه وسلم-؛ ليدعوا لهم بالبركة فيها.[٢]


تجارته بمال خديجة لصدقه وأمانته

كانت أمّ المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- صاحبة مال وتجارة، فكانت تنافس القوم في السوق وتستأجر الرجال ليديروا لها أعمال تجارتها؛ فلمّا بلغها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- صدق حديثه، وعِظَم أمانته، وكرم أخلاقه؛ بعثت إليه فتاها ميسرة، وعرضت عليه أن يحمل لها تجارة إلى الشام، على أن تعطيه أفضل ما تعطي التجار؛ فقبل منها النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك العرض وخرج بتجارتها.[٣]


وقد رافقه في رحلته فتاها ميسرة؛ الذي ظهرت له أخلاق ونبل النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ مما جعله يمتدحه أمام أمّ المؤمنين خديجة -رضي الله عنها-، ويكون سبباً في أن تخطبه خديجة -رضي الله عنها- لنفسها.[٣]


شهادة القوم بصدق النبي

بعد بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- واستنكار القوم لنبوته؛ تعرّض النبي -صلى الله عليه وسلم- لأشدّ المضايقات والاتهامات، ولكنّ على الرغم من ذلك كلّه فقد كانت قريش تقرّ بصدقه، وتعترف بعدم عهدها الكذب عليه -صلى الله عليه وسلم-؛ ومن أبرز المواقف التي تجلّى فيها إقرار أعداء النبي بصدقه ما يأتي:


يوم أمر الله نبيّه بالجهر بالدعوة

جمع -صلى الله عليه وسلم- قبائل قريش ليعلمهم بنيوته؛ وقد مهّد لهم ذلك بسؤالهم: (أرَأَيْتَكُمْ لو أخْبَرْتُكُمْ أنَّ خَيْلًا بالوَادِي تُرِيدُ أنْ تُغِيرَ علَيْكُم؛ أكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟)، فأجابه القوم: (نَعَمْ، ما جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إلَّا صِدْقًا)،[٤] وبهذا كان حُسن خلقه وصدقه -صلى الله عليه وسلم- خير تمهيد لخبر نبوته، وصدقه في ذلك.[٥]


يوم دخل النبي المدينة المنورة

وقد أقبل عليه الناس، ذهب عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- مع جموع من ذهب لينظر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يكن قد أسلم حينها؛ وقد قال: (فلمَّا تبيَّنتُ وجهَهُ، عرفتُ أنَّ وجهَهُ ليسَ بوَجهِ كذَّابٍ..).[٦][٧]


يوم معركة بدر الكبرى

لمّا تراءى جمع المسلمين والمشركين يوم معركة بدر؛ سأل رجلٌ يُدعى الأخنس بن شريق أبا جهل؛ إن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكذب بدعوته، فقال له أبو جهل: "كَيْفَ يَكْذِبُ عَلَى اللهِ، وَقَدْ كُنّا نُسَمّيهِ الْأَمِينَ لِأَنّهُ مَا كَذَبَ قَطّ، وَلَكِنْ إذَا اجْتَمَعَتْ فِي بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ السّقَايَةَ وَالرّفَادَةَ وَالْمَشُورَةَ، ثُمّ تَكُونُ فِيهِمْ النّبوة، فَأَيّ شَيْءٍ بَقِيَ لَنَا"؛ فكان سبب إنكار دعوته -صلى الله عليه وسلم- أنفة قريش واعتدادها بنفسها؛ لا تكذيباً للنبي -صلى الله عليه وسلم-.[٨]


شهادة أمية بن خلف وزوجته

وذلك لمّا ذهب سعد بن معاذ -رضي الله عنه- إلى مكة المكرمة معتمراً، فالتقى بأبي جهل وأمية بن خلف، وقد تشاجروا فيما بينهم اعتراضاً على طواف سعد بن معاذ -رضي الله عنه- حول الكعبة، وكان أمية بن خلف يحجز بين أبي جهل وسعد؛ فأغضب ذلك الصحابي الجليل وقال لأميّة بن خلف: (دَعْنَا عَنْكَ؛ فإنِّي سَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أنَّه قَاتِلُكَ).[٩][١٠]


وهنا أجاب أميّة: (واللَّهِ ما يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ إذَا حَدَّثَ)، فلمّا عاد لزوجته وأخبرها بما سمع من خبر قتله؛ قالت له: (فَوَاللَّهِ ما يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ)،[٩] ولما جاء يوم بدر وأراد أميّة الخروج مع قريش ذكّرته زوجته بكلام سعد بن معاذ، فتراجع عن الخروج خوفاً على نفسه؛ إلا أنّ أبا جهل أصرّ عليه في ذلك، فخرج وقُتل في تلك المعركة.[١٠]

المراجع

  1. سورة القلم، آية:4
  2. ^ أ ب شمس الدين الذهبي، تاريخ الإسلام، صفحة 66-68، جزء 1. بتصرّف.
  3. ^ أ ب محمد الخضري، نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، صفحة 15.
  4. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن عباس، الصفحة أو الرقم:4770، صحيح.
  5. موسى بن راشد العازمي، اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون، صفحة 224-225، جزء 1. بتصرّف.
  6. رواه ابن ماجه، في سنن ابن ماجه ، عن عبد الله بن سلام، الصفحة أو الرقم:2648 ، صححه الألباني.
  7. الملا على القاري، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، صفحة 1340، جزء 4. بتصرّف.
  8. السهيلي، الروض الأنف، صفحة 240، جزء 5. بتصرّف.
  9. ^ أ ب رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن مسعود، الصفحة أو الرقم:3632، صحيح.
  10. ^ أ ب البغوي، أبو محمد، الأنوار في شمائل النبي المختار، صفحة 87. بتصرّف.