مواقف بكى فيها النبي محمد

يعدّ البكاء وحزن القلب وذرف الدموع من الأمور البشريّة التي تعتري الناس جميعاً؛ حتى وإن كانوا أنبياء ومرسلين؛ وهذا لا يتنافى مع الإيمان، أو يقدح في التسليم لقضاء الله -تعالى- وقدره.[١]


كما أنّه لا يتنافى مع المغفرة التامّة وضمان الفوز بالجنان التي أكرم الله بها أنبياءه، فكلّ ذلك دلالة على بشريّة هؤلاء الأنبياء -عليهم السلام-، وأنّهم يُصابون بما يُصاب به الناس؛ من فقد، أو حزن، أو خوف، أو خشية، إلا أنّهم لا يسيئون الأدب مع مولاهم -جلّ في علاه-، ولا يعترضون على أقداره بالفعل أو بالكلام، بل يقابلون ذلك كلّه بالصبر الجميل والثبات، وحسن التّوكل، وطلب العوض من الله -تعالى-.[١]


ولقد بكى النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في مواقف عديدة ولأسباب متنوّعة، نُقلت على مرّ العصور؛ للاتعاظ والاقتداء، وحسن الاتباع؛ وفيما يأتي ذكر بعض هذه المواقف:


بكاؤه في صلاة الليل

إنّ البكاء من خشية الله -تعالى- سمة الأنبياء والمرسلين -عليهم السلام-، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبكي في صلاة الليل خشيةً من الله -تعالى-، وخوفاً منه -سبحانه-، ورغبةً في ثوابه ومغفرته، وكرمه وعطائه، وقد شهد غير واحد من الصحابة -رضوان الله عليهم- بكاء النبي الكريم وخشوعه في الصلاة، وهذا عبد الله بن الشخير -رضي الله عنه- ينقل لنا صورة مؤثرة من بكائه -صلى الله عليه وسلم-.[٢]


يقول -رضي الله عنه-: (رأيتُ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- يُصلِّي وفي صدرِه أزيزٌ كأزيزِ الرَّحى مِنَ البكاءِ)؛[٣] وفي رواية: (انتهيْتُ إلى رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ- وهو يُصلِّي ولصدرِهِ أزيزٌ كأزيزِ المِرجلِ)؛[٤] والمقصود بأزيز الرّحى صوت الطاحونة، أمّا أزيز المرجل فهو صوت غليان الماء بالقِدْرِ؛ فكأنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- من شدّة ابتهاله، وخشوعه، وخوفه وتعظيمه لله -تعالى-، أنّه كان يُصلي بالبكاء لا بغيره.[٥]


بكاؤه عند فقد الأحبة

صحّ في الأثر عدّة مواقف تبيّن أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان رقيق القلب والوجدان، يُحزنه فقد أحبته، ويُبكيه موتهم؛ وليس هذا من باب الجزع أو قلّة الصبر، إنّما رقةً في النفس، ورحمة في القلب؛ ودليل هذا ما ثبت في تبريره -صلى الله عليه وسلم- عند البكاء على فقد إبراهيم؛ وهو أحد أبناء النبي -صلى الله عليه وسلم-.[٦]


وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنّه قال في فراق النبي -صلى الله عليه وسلم- لابنه إبراهيم: (... فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- تَذْرِفَانِ، فَقالَ له عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ -رَضِيَ اللَّهُ عنْه-: وأَنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ فَقالَ: يا ابْنَ عَوْفٍ إنَّهَا رَحْمَةٌ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بأُخْرَى، فَقالَ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ).[٧][٦]


ومن بكائه -صلى الله عليه وسلم- على فقد أحبته، أنّه بكى عند فراق ابنةٍ له؛ حيث حضر النبي -صلى الله عليه وسلم- آخر لحظاتها وهي تنازع الروح؛ فأخذها -صلوات الله عليه- وضمّها بين ذراعيه حتى ارتقت روحها، فبكى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبكت أم أيمن -رضي الله عنها- من تأثرها بهذا الموقف المهيب.[٨]


وقد استنكر عليها بعض الصحابة أن تبكي بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فردّت قائلة: (... أَلا أَبْكِي وَرَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَبْكِي؟ فقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنِّي لَمْ أَبْكِ، وَهَذِهِ رَحْمَةٌ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ تَخْرُجُ نَفْسُهُ مِنْ بَيْنِ جَنْبَيْهِ وَهُوَ يَحْمَدُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ)؛[٩] وقد قصد النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنّه لم يبكِ أيّ جزعاً أو اعتراضاً، إنّما رحمةً بابنته.[٨]


بكاؤه عند تدبر القرآن وسماعه

كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قدوة في شكره، وقدوة في خشوعه وحسن تدبّره للقرآن الكريم؛ فقد ذكرت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنّها رأت أعجب موقف من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وذلك لما كان في صلاته وتلاوته للقرآن الكريم ذات ليلة، فقالت: (... فقام -تقصد رسول الله- فتطهَّر ثمَّ قام يُصَلِّي، فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ حجرَه، ثمَّ بكى فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ لِحيتَه، ثمَّ بكى فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ الأرضَ...).[١٠][١١]


وتكمل عائشة أم المؤمنين فتقول: (... فجاء بلالٌ يُؤذِنُه بالصَّلاةِ، فلمَّا رآه يبكي قال: يا رسولَ اللهِ لِمَ تَبكي، وقد غفَر اللهُ لك ما تقدَّم وما تأخَّر؟ قال: أفلا أكونُ عبدًا شكورًا، لقد نزَلَتْ علَيَّ اللَّيلةَ آيةٌ، ويلٌ لِمَن قرَأها ولم يتفكَّرْ فيها، "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ...").[١٠][١١]


ومن الجدير بالذكر أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحبّ سماع القرآن الكريم من غيره؛ ممن يجيد تلاوته، ويُحسّن صوته، ويُتقن خشوعه؛ ففي الصحيح أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- طلب من عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن يقرأ عليه القرآن؛ فقرأ عبد الله -رضي الله عنه- من بداية سورة النساء.[١٢]


حتى وصل إلى قوله -تعالى-: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلَاءِ شَهِيدًا)؛[١٣]فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله: (... حَسْبُكَ الآنَ)؛[١٤] ثم التفت إليه عبد الله -رضي الله عنه- فوجد عينيه تذرفان الدموع تأثراً بالآية الكريمة.[١٢]

المراجع

  1. ^ أ ب أحمد بن عبد الفتاح زواوى، شمائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، صفحة 411-412، جزء 1. بتصرّف.
  2. سعيد بن وهف القحطاني، رحمة للعالمين، صفحة 83-84. بتصرّف.
  3. رواه أبو داود، في سنن أبي داود، عن عبد الله بن الشخير، الصفحة أو الرقم:904، صحيح.
  4. رواه الإمام أحمد، في المسند، عن عبد الله بن الشخير، الصفحة أو الرقم:16360، صحيح.
  5. حسن بن علي الفيومي، فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب، صفحة 701-702، جزء 3. بتصرّف.
  6. ^ أ ب سعيد بن وهف القحطاني، الخلق الحسن في ضوء الكتاب والسنة، صفحة 164-165. بتصرّف.
  7. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم:1303، صحيح.
  8. ^ أ ب أحمد محمود الشوابكة، الصحيح المأثور في عالم البرزخ والقبور، صفحة 176. بتصرّف.
  9. رواه الإمام أحمد، في المسند، عن عبد الله بن عباس، الصفحة أو الرقم:2412، حسن.
  10. ^ أ ب رواه ابن حبان، في صحيح ابن حبان، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم:620، أخرجه في صحيحه .
  11. ^ أ ب مجموعة من المؤلفين، نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم، صفحة 1070، جزء 4. بتصرّف.
  12. ^ أ ب رقية المحارب، البكاء في الكتاب والسنة، صفحة 9. بتصرّف.
  13. سورة النساء، آية:41
  14. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن مسعود، الصفحة أو الرقم:5050، صحيح.