بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم
نشأ النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أوساط قريش في بطن مكة المكرمة؛ بين قوم عُرفوا بفصاحة اللسان، وجمال البيان، والقدرة على تصريف القول حسب حاجتهم للمحاجّة والمناظرة؛ فكانت مراحل حياته -صلى الله عليه وسلم- زاخرة من الطفولة وحتى الكهولة؛ وقول النبي في ذلك خير دليل حيث قال -صلى الله عليه وسلم-: (أنا النبيُّ لا كَذِبْ، أنا ابنُ عبدِ المُطَّلِبْ).[١][٢]
وتجدر الإشارة إلى أنّ النبوة وأسلوب القرآن الكريم وآياته كان لهما كبير الأثر في بلاغة النبي وفصاحته -صلى الله عليه وسلم-، فقد بلغ رسول الله غاية البيان البشريّ بتدبيرٍ إلهي؛ ومما يدل على ذلك ما يأتي:[٢]
- قوله -تعالى-: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا)؛[٣]أيّ إنّ الله -تعالى- منّ على نبيه بعظيم النّعم من البيان والعلم والحكمة، وأتمّ عليه روائع البلاغة بذلك.
- قوله -تعالى-: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)؛[٤]أيّ أنّ الله -سبحانه- لم يذكر ما هو العطاء الذي سيُكرم النبي به حتى يرضى، ولعلّ البيان وفصاحة اللسان التي تغلّب بها على نظائره من العرب داخلٌ في عموم هذا العطاء؛ إذ إنّ البيان فضيلة الفضائل لا يُنالها إلا ذو حظٍ عظيم.
- قوله -تعالى-: (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا)؛[٥]والقول البليغ هو القول الذي يغور في النفوس، ويبلغ غاية ما يُراد منه، فكان كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- يتّسم بالبلاغة التي تقع موقعها في القلوب والنفوس.
- قوله -تعالى- عن نبيّه داود -عليه السلام-: (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ)؛[٦]فإذا كانت الحكمة وحُسن الخطاب ممّا أكرم به أنبيائه السابقين، فلا بدّ أنّ خاتم النبيين والمرسلين أُوتي مثلها، بل أكثر منها.
- قوله -تعالى-: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)؛[٧]فهذا التكليف الجليل لا يمكن أن يكون دون أدوات البلاغة؛ لأنّها وسائل للإقناع والحوار، لا سيما في قوم عرفوا واشتهروا بحسن اللفظ وقوة الأسلوب، فلا بدّ أن يكون النبي المبعوث إليهم مثلاً أعلى في ذلك كلّه؛ ليلزمهم الحجّة ويُغالبهم في المناظرة، فلا يكون منهم إلا الاتباع والتصديق.
نماذج من بلاغة رسول الله
إنّ شواهد بلاغة النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثر من أن تُحصى أو تُعدّ، قد شهد بها القاصي والداني، والمؤمن والكافر؛ وقد ألف فيها الكتّاب والبُلغاء مسهبين في ذلك، ونعرض فيما يأتي بعض هذه النماذج التي تكلّم فيها أهل العلم:
حديث "كمثل الجسد"
وذلك في قوله -صلى الله عليه وسلم- حين وصف المؤمنين: (تَرَى المُؤْمِنِينَ في تَراحُمِهِمْ وتَوادِّهِمْ وتَعاطُفِهِمْ، كَمَثَلِ الجَسَدِ، إذا اشْتَكَى عُضْوًا تَداعَى له سائِرُ جَسَدِهِ بالسَّهَرِ والحُمَّى)؛[٨]وتظهر بلاغة النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث بترتيب الصفات والأعمال الإنسانية ترتيباً واقعياً؛ فترتب التراحم على التوادّ على التعاطف، كل ذلك يدلّ على تنامي العلاقات والمشاعر الإنسانية، بالإضافة إلى استخدامه -صلى الله عليه وسلم- أسلوب المفاعلة؛ التي توحي بالمشاركة الإيجابية والتعاون، وكل هذا التنامي بين القيم السامية مع التصوير البليغ والبديع؛ من أبرز أساليب البلاغة النبويّة.[٩]
كما أنّ التصوير الفنيّ بقوله: "كمثل الجسد" فيه تأثر بأسلوب القرآن الكريم؛ حين قال -سبحانه-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)،[١٠] فكأنّ علاقة المسلمين كعلاقة أعضاء الجسد ببعضها؛ إذ لا يستغني أحدها عن الآخر، بل يُكمّل كلٌ منها النقص والخلل، حتى إذا اعتلّ عضو قامت باقي الأعضاء بالسهر والتعب، والتخفيف والتطبيب؛ وكذا المسلمون إذا تراحموا وتعاطفوا وتواددوا؛ يصبحون أمّة قويّة كالجسد الواحد، تُقاوم الضعف وتسدّ الثغرات أمام المغرضين، فيُحسب لها بذلك ألف حساب.[٩]
حديث "حتى تعود مروجاً"
وذلك بقوله -صلى الله عليه وسلم- في علامات الساعة: (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يَكْثُرَ المالُ ويَفِيضَ، حتَّى يَخْرُجَ الرَّجُلُ بزَكاةِ مالِهِ فلا يَجِدُ أحَدًا يَقْبَلُها منه، وحتَّى تَعُودَ أرْضُ العَرَبِ مُرُوجًا وأَنْهارًا)؛[١١] فاستدلّ العلماء بقول النبي: "حتى تعود" على أنّ أرض العرب كانت في الماضي كثيرة الزرع والنبات؛ وقد دلّلت الدراسات البيولوجية ذلك، كما أنّ التعبير النبويّ هذا شمل الماضي والمستقبل؛ فأرض العرب كانت مروجاً وستكون كذلك في المستقبل؛ فلخصّ هذا التعبير حقائق علميّة بأسلوب بليغ ضمّ الأزمنة المختلفة.[١٢]
خطبة الفتح
كان فتح مكة المكرمة أول خروج للجيش الإسلامي نصرةً للمستضعفين من المسلمين، كما كان أعظم ثمرات الجهاد والتضحية، والهجرة والإيذاء في سبيل الله -تعالى-؛ لذا خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- خطبةً بليغة رفعت روح المعنويّة لدى المسلمين، وأكدت على معاني العبوديّة لله -تعالى-؛ بعلو الحقّ على الباطل، واستضاءة العقول بنور الإيمان؛ ومن أهمّ الأساليب التي اتبعها النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الخطبة ما يأتي:[١٣]
- إثارة الانتباه إلى المعاني الجليلة التي يقوم عليها الإسلام؛ وذلك بقوله -عليه السلام-: (لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وحْدَهُ لا شَرِيكَ له، له المُلْكُ وله الحَمْدُ، وهو علَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ.. صَدَقَ اللَّهُ وعْدَهُ، ونَصَرَ عَبْدَهُ، وهَزَمَ الأحْزَابَ وحْدَه).[١٤]
- الخطاب الجماعي الذي يقوم على الهمّ والمشاركة؛ بتفسير هذا الحدث الجليل وبيانه لعموم الناس، حيث قال -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ اللَّهَ حَبَسَ عن مَكَّةَ الفِيلَ، وسَلَّطَ عليها رَسوله والْمُؤْمِنِينَ، وإنَّها لَنْ تَحِلَّ لأَحَدٍ كانَ قَبْلِي، وإنَّها أُحِلَّتْ لي ساعَةً مِن نَهارٍ، وإنَّها لَنْ تَحِلَّ لأَحَدٍ بَعْدِي..).[١٥]
- تخيرّ الفرصة المناسبة -باجتماع المسلمين في موقف جلل كهذا- للتأكيد على القيم الساميّة مع التمسّك بالبرهان والدليل؛ حيث تلا عليهم النبي قول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).[١٦]
- المخاطبة بأسلوب بسيط مفهوم لعموم المسلمين، مراعياً -عليه السلام- أحوال جميع المخاطبين؛ مع الاعتماد على الألفاظ التي تحمل في دلالتها القوة الفطريّة؛ مما دفع رجلاً من أهل اليمن يقوم ويقول: (اكْتُبُوا لي يا رَسولَ اللَّهِ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: اكْتُبُوا لأبِي شَاهٍ)؛[١٧] يقصد بذلك خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح.
مواضيع أخرى:
المراجع
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن البراء بن عازب، الصفحة أو الرقم:4316 ، صحيح.
- ^ أ ب جامعة المدينة العالمية، أصول الدعوة وطرقها جامعة المدينة، صفحة 290-292. بتصرّف.
- ↑ سورة النساء، آية:113
- ↑ سورة الضحى، آية:5
- ↑ سورة النساء، آية:63
- ↑ سورة ص، آية:20
- ↑ سورة النحل، آية:64
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن النعمان بن بشير، الصفحة أو الرقم:6011، صحيح.
- ^ أ ب علي علي صبح، التصوير النبوي للقيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف، صفحة 153-155. بتصرّف.
- ↑ سورة آل عمران، آية:103
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:157، صحيح.
- ↑ محمد راتب النابلسي، موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، صفحة 82-83، جزء 2. بتصرّف.
- ↑ سعيد بن علي ثابت، الجوانب الإعلامية في خطب الرسول صلى الله عليه وسلم، صفحة 51-61. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن عمر، الصفحة أو الرقم:4116، صحيح.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:1355، صحيح.
- ↑ سورة الحجرات، آية:13
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:2434، صحيح.