وفاء النبي صلى الله عليه وسلم

كان النبي -صلى الله عليه وسلم- المثال الأسمى والأوفى في الوفاء، وقد تمثّل هذا الخلق الكريم في حياته مع أقرب الناس إليه، وأحبّهم على قلبه، مثلما ظهر مع أبعد الناس عنه وأبغضهم إلى قلبه؛ فكان يراعي الوِداد، ويحفظ المواثيق ويصون العهود؛ ويمكن أنْ نذكر من صور وفائه -صلى الله عليه وسلم- المواقف الآتية:


وفاء النبي بالعهود مع أعدائه

جلّت السيرة النبوية العديد من المواقف التي ظهر فيها وفاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بعهوده التي أبرمها مع أعدائه، حيث لم يغدر بأصحابها أو يأمر بإفسادها -صلى الله عليه وسلم-، فكان واضحاً صادقاً وفيّاً؛ خلافاً لمواقف الأعداء معه، الذين اعتادوا نقض العهود والتّنكر للوعود، كما فعلت قبائل اليهود في المدينة المنورة.


ومن المواقف التي تشهد بذلك ما كان في بعثة قريش لأبي رافع يوم الحديبيّة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد كان نصرانيّاً، فلمّا قدم أبا رافع على النبي وقع في قلبه الإسلام، واطمئن له؛ فطلب من النبي الكريم أنْ لا يعود إلى قريش أبداً؛ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنِّي لاَ أخيسُ بالعَهدِ، ولاَ أحبسُ البردَ -أيّ الرسل-، ولَكنِ ارجع فإن كانَ في نفسِكَ الَّذي في نفسِكَ الآنَ فارجع).[١][٢]


وما كان من هذا الرجل إلى أن ذهب إلى قريش، والتزم أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى لا ينقض العهد بينه وبينهم، ثم عاد وأعلن إسلامه،[٢] كما ثبت أنّه -صلى الله عليه وسلم- ردّ أبا جندل الذي جاء مسلماً من قريش، وذلك التزاماً بما جاء في عقد الحديبيّة، أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- يردّ كل من جاء من قريش مسلماً، ولكن لا يُردّ من جاء من المسلمين إلى قريش كافراً.[٣]


وفاء النبي لخديجة رضي الله عنها

كان النبي -صلى الله عليه وسلم- شديد الحبّ والوفاء لزوجته خديجة -رضي الله عنها-، عرف قدرها في حياتها، فلازمها ولم يتزوّج عليها لا قبل البعثة ولا بعدها، فصان قلبها من الغيرة، وحفظ ودادها ومواقفها في مساندته بدعوته، كما كان يكثر من ذكرها، ويستغفر لها بعد موتها؛ حتى غارت منها أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، فقالت ذات مرة: (ما غِرْتُ علَى امْرَأَةٍ ما غِرْتُ علَى خَدِيجَةَ؛ مِن كَثْرَةِ ذِكْرِ رَسولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- إيَّاهَا).[٤][٥]


وكان من حبّه -صلى الله عليه وسلم- لخديجة -رضي الله عنها-، ووفائه بحقها، يتفقّد صديقاتها بعد وفاتها، فكان إذا ذبح شاة أرسل إليهنّ منها، وإذا سمع صوت قريباتها ظهر عليه السّرور.[٥]


وفي الصحيح أنّ هالة أخت خديجة -رضي الله عنها- استأذنت على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلمّا سمع صوتها فزع لذلك، وتذكر خديجة -رضي الله عنها-، حتى قالت له أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: (ما تَذْكُرُ مِن عَجُوزٍ مِن عَجَائِزِ قُرَيْشٍ، حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ، هَلَكَتْ في الدَّهْرِ، قدْ أبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا منها).[٦][٥]


وفي رواية أحمد أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ردّ على عائشة -رضي الله عنها- قائلاً: (مَا أَبْدَلَنِي اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ).[٧]

المراجع

  1. رواه أبو داود، في سنن أبي داود، عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، الصفحة أو الرقم:2758، صححه الألباني.
  2. ^ أ ب حسين العوايشة، الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة، صفحة 265، جزء 7. بتصرّف.
  3. ابن القيم، زاد المعاد في هدي خير العباد، صفحة 127، جزء 5. بتصرّف.
  4. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم:3817، صحيح.
  5. ^ أ ب ت صالح بن حميد، دروس للشيخ صالح بن حميد، صفحة 7، جزء 70. بتصرّف.
  6. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم:3821، صحيح.
  7. رواه الإمام أحمد، في مسند أحمد، عن عائشة، الصفحة أو الرقم:24864، صحيح.